وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَشَقَّةُ، وَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
قَوْلُهُ: (فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً) أَيْ: سَأَلْتُهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيَّ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنَةً عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفَادَةِ، وَفِي غَالِبِ النُّسَخِ: فَاسْتَقْرَيْتُهُ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى التَّسْهِيلِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْهَمْزَةَ.
قَوْلُهُ: (فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَلَيَّ) أَيْ: قَرَأَهَا عَلَيَّ وَأَفْهَمَنِي إِيَّاهَا، وَوَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِيهِ: فَقُلْتُ لَهُ: أَقْرِئْنِي، وَأَنَا لَا أُرِيدُ الْقِرَاءَةَ، وَإِنَّمَا أُرِيدُ الْإِطْعَامَ وَكَأَنَّهُ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ، فَلَمْ يَفْطِنْ عُمَرُ لِمُرَادِهِ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنَ الْجَهْدِ) أَيِ: الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَوَّلًا وَهُوَ شِدَّةُ الْجُوعِ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْحِلْيَةِ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ صَائِمًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ هُوَ الْقَدَحُ الْكَبِيرِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي) أَيِ: اسْتَقَامَ مِنِ امْتِلَائِهِ مِنَ اللَّبَنِ.
قَوْلُهُ: (كَالْقِدْحِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ، هُوَ السَّهْمُ الَّذِي لَا رِيشَ لَهُ، وَسَيَأْتِي لِأَبِي هُرَيْرَةَ قِصَّةٌ فِي شُرْبِ اللَّبَنِ مُطَوَّلَةٌ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ، وَفِيهَا أَنَّهُ قَالَ: اشْرَبْ، فَقَالَ: لَا أَجِدُ لَهُ مَسَاغًا وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ الشِّبَعِ، وَلَوْ حُمِلَ الْمُرَادُ بِنَفْيِ الْمَسَاغِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى الشِّبَعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ:
ذَكَرَ لِي مُحَدِّثُ الدِّيَارِ الْحَلَبِيَّةِ بُرْهَانُ الدِّينِ أَنَّ شَيْخَنَا سِرَاجَ الدِّينِ الْبُلْقِينِيَّ قَالَ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَطْعِمَةِ الْمُتَرْجَمِ عَلَيْهَا الْمَتْلُوِّ فِيهَا الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ، قُلْتُ: وَهُوَ ظَاهِرٌ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَا ذَلِكَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِهَا وَصِفَاتِهَا، فَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِهَا النَّاشِئَةِ عَنْهَا الشِّبَعَ وَالْجُوعَ، وَمِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِهَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ، وَالْمُسْتَلَذُّ وَالْمُسْتَخْبَثُ، وَمِمَّا يَنْشَأُ عَنْهَا الْإِطْعَامُ وَتَرْكُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ. وَأَمَّا الْآيَاتُ؛ فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْإِذْنَ فِي تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالْأَحَادِيثِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنَ الْحَلَالِ، وَلَا الْمُسْتَلَذِّ، وَلَا بِحَالَةِ الشِّبَعِ وَلَا بِسَدِّ الرَّمَقِ، بَلْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْوِجْدَانِ وَبِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (تَوَلَّى ذَلِكَ) أَيْ: بَاشَرَهُ مِنْ إِشْبَاعِي وَدَفْعِ الْجُوعِ عَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَحَكَى الْكِرْمَانِيُّ أَنَّ فِي رِوَايَةِ: تَوَلَّى اللَّهُ ذَلِكَ، قَالَ وَمَنْ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَاعِلٌ انْتَهَى. وَيَكُونُ تَوَلَّى عَلَى الثَّانِي بِمَعْنَى وَلَّى.
قَوْلُهُ: (وَلَأَنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا قَرَأَهَا عَلَيْهِ تَوَقَّفَ فِيهَا أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى سَاغَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ مَا قَالَ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَى قَوْلِهِ.
قَوْلُهُ: (أَدْخَلْتُكَ) أَيِ: الدَّارَ وَأَطْعَمْتُكَ.
قَوْلُهُ: (حُمْرُ النَّعَمِ) أَيِ: الْإِبِلِ، وَلِلْحُمْرِ مِنْهَا فَضْلٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَنَاقِبِ الْبَحْثُ فِي تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ وَالْمُرَادِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُنْتُ أَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ، وَهِيَ مَعِي، كَيْ يَنْقَلِبَ مَعِي فَيُطْعِمَنِي، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا اسْتَقْرَأَ أَحَدُهُمْ صَاحِبَهُ الْقُرْآنَ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَيُطْعِمَهُ مَا تَيَسَّرَ، وَيُحْمَلُ مَا وَقَعَ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ شُغْلٌ عَاقَهُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُطْعِمُهُ حِينَئِذٍ، انْتَهَى. وَيُبْعِدُ الْأَخِيرُ تَأَسُّفَ عُمَرَ عَلَى فَوْتِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ لِي مُحَدِّثُ الدِّيَارِ الْحَلَبِيَّةِ أَنَّ شَيْخَنَا سِرَاجَ الدِّينِ الْبُلْقِينِيَّ اسْتَبْعَدَ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِعُمَرَ: لَأَنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ يَا عُمَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَهَابَةُ عُمَرَ، وَالثَّانِي عَدَمُ اطِّلَاعِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يَقْرَؤُهَا مِثْلَهُ. قُلْتُ: عَجِبْتُ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الطَّعْنَ عَلَى بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِالْغَلَطِ مَعَ وُضُوحِ تَوْجِيهِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ خَاطَبَ عُمَرَ بِذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَفِي حَالَةٍ كَانَ عُمَرُ فِيهَا فِي صُورَةِ الْخَجْلَانِ مِنْهُ فَجَسَرَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّاني فَيَعْكِسُ وَيُقَالُ: وَمَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِيَقُولَ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ اطِّلَاعِهِ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَهَا مِنْ لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ أُنْزِلَتْ، وَمَا سَمِعَهَا عُمَرُ - مَثَلًا - إِلَّا بِوَاسِطَةٍ.