للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

أَيْ: صُيِّرَتْ لَكُمْ إِرْثًا. وَأَطْلَقَ الْإِرْثَ مَجَازًا عَنِ الْإِعْطَاءِ لِتَحَقُّقِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ ﴿بِمَا﴾ إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِعَمَلِكُمْ، وَإِمَّا مَوْصُولَةٌ، أَيْ: بِالَّذِي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَوْ لِلْمُقَابَلَةِ (١). فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَحَدِيثِ: لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي الْحَدِيثِ دُخُولُهَا بِالْعَمَلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْقَبُولِ، وَالْمُثْبَتَ فِي الْآيَةِ دُخُولُهَا بِالْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، وَالْقَبُولُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، فَلَمْ يَحْصُلِ الدُّخُولُ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

(تَنْبِيهٌ): اخْتَلَفَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ لَفْظَ مِنْ مُرَادٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقِيلَ وَقَعَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ فَأُجِيبَ كُلُّ سَائِلٍ بِالْحَالِ اللَّائِقِ بِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْحَلِيمِيِّ وَنَقَلَهُ عَنِ الْقَفَّالِ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ عِدَّةٌ) أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَوَيْنَا حَدِيثَهُ مَرْفُوعًا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَمِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ رَوَيْنَا حَدِيثَهُ فِي التَّفْسِيرِ لِلطَّبَرِيِّ، وَالدُّعَاءِ لِلطَّبَرَانِيِّ. وَمِنْهُمْ مُجَاهِدٌ رَوَيْنَاهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: ﴿لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾ إِلَخْ) قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ كُلِّهَا، أَيِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّكْلِيفُ، وَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالتَّوْحِيدِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ. قُلْتُ: لِتَخْصِيصِهِمْ وَجْهٌ مِنْ جِهَةِ التَّعْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَجْمَعِينَ﴾ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكُفَّارِ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، فَإِنَّ الْكَافِرَ مُخَاطَبٌ بِالتَّوْحِيدِ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ بَاقِي الْأَعْمَالِ فَفِيهَا الْخِلَافُ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ عَنِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ يَقُولُ: إِنَّمَا يُسْأَلُونَ عَنِ التَّوْحِيدِ فَقَطْ، فَالسُّؤَالُ عَنِ التَّوْحِيدِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَهَذَا هُوَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْحَمْلِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ) أَيِ: اللَّهُ ﷿ ﴿لِمِثْلِ هَذَا﴾ أَيِ: الْفَوْزِ الْعَظِيمِ، ﴿فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَأَوَّلَهَا بِمَا تَأَوَّلَ بِهِ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، أَيْ: فَلْيُؤْمِنِ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يُحْمَلُ الْعَمَلُ عَلَى عُمُومِهِ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ لَا بُدَّ أَنْ يَقْبَلَ (٢)، وَمَنْ قَبِلَ فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَعْمَلَ، وَمَنْ عَمِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَ، فَإِذَا وَصَلَ قَالَ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ. (تَنْبِيهٌ): يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي رَأَى قَرِينَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ انْقَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ وَالَّذِي بَعْدَهُ ابْتِدَاءٌ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ ﷿ أَوْ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ، لَا حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِ. وَالِاحْتِمَالَاتُ الثَّلَاثَةُ مَذْكُورَةٌ فِي التَّفْسِيرِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِبْهَامِ الْمُصَنِّفِ الْقَائِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ الْيَرْبُوعِيُّ الْكُوفِيُّ، نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ.

قَوْلُهُ: (سُئِلَ) أَبْهَمَ السَّائِلَ، وَهُوَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، وَحَدِيثُهُ فِي الْعِتْقِ (٣).

قَوْلُهُ: (قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ) وَقع فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بن أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ثُمَّ جِهَادٌ فَوَاخَى بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فِي التَّنْكِيرِ، بِخِلَافِ مَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْإِيمَانُ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْحَجِّ، وَالْجِهَادُ قَدْ يَتَكَرَّرُ، فَالتَّنْوِينُ لِلْإِفْرَادِ الشَّخْصِيِّ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْكَمَالِ. إِذِ الْجِهَادُ لَوْ أَتَى بِهِ مَرَّةً مَعَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى التَّكْرَارِ لَمَا كَانَ أَفْضَلَ. وَتُعُقِّبَ عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّنْكِيرَ مِنْ جُمْلَةِ وُجُوهِهِ التَّعْظِيمُ، وَهُوَ يُعْطِي الْكَمَالَ. وَبِأَنَّ التَّعْرِيفَ مِنْ جُمْلَةِ وُجُوهِهِ الْعَهْدُ، وَهُوَ يُعْطِي الْإِفْرَادَ الشَّخْصِيِّ، فَلَا يُسَلَّمُ الْفَرْقُ. قُلْتُ: وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا أَنَّ التَّنْكِيرَ وَالتَّعْرِيفَ فِيهِ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ ; لِأَنَّ مَخْرَجَهُ وَاحِدٌ، فَالْإِطَالَةُ فِي طَلَبِ الْفَرْقِ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ طَائِلَةٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

قَوْلُهُ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ) أَيْ مَقْبُولٌ، وَمِنْهُ بَرَّ حَجُّكُ، وَقِيلَ الْمَبْرُورُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ إِثْمٌ، وَقِيلَ الَّذِي


(١) الصواب أن الباء هنا للسببية، بخلاف الباء في حديث "لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله" فإنها للعوض والمقابلة
(٢) أي لابد أن يقبل ما جاء به الرسول ؛ إذ لايتم إيمانه الا بذلك.
(٣) برقم ٢٥١٨