فَتَقَدَّمَتْ رِوَايَتُهُ فِي الشَّرِكَةِ وَلَفْظُهُ نَهَى أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ وَهَذَا ظَاهِرُهُ الرَّفْعُ مَعَ احْتِمَالِ الْإِدْرَاجِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الشَّيْبَانِيِّ فَأَخْرَجَهَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ نَهَى عَنِ الْإِقْرَانِ إِلَّا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَكَ وَالْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، وَأَمَّا رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ فَأَخْرَجَهَا ابْنُ حِبَّانَ فِي النَّوْعِ الثَّامِنِ وَالْخَمْسِينَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ صَحِيحِهِ بِلَفْظِ مَنْ أَكَلَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ تَمْرٍ فَلَا يَقْرُنْ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُمْ، فَإِنْ أَذِنُوا فَلْيَفْعَلْ وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الرَّفْعِ مَعَ احْتِمَالِ الْإِدْرَاجِ أَيْضًا.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَنْ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ فَوَجَدْنَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسِيَاقُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِئْذَانِ مَرْفُوعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ إِسْحَاقَ فِي مُسْنَدِهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ ابْنُ حِبَّانَ أَخْرَجَا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كُنْتُ فِي أَصْحَابِ الصُّفَّةِ فَبَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَمْرَ عَجْوَةٍ فَكَبَّ بَيْنَنَا فَكُنَّا نَأْكُلُ الثِّنْتَيْنِ مِنَ الْجُوعِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُنَا إِذَا قَرَنَ أَحَدُهُمْ قَالَ لِصَاحِبِهِ إِنِّي قَدْ قَرَنْتُ فَاقْرِنُوا وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا لَهُمْ مَعْرُوفًا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ كَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَفْظُهُ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَمْرًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْرُنُ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقْرُنَ إِلَّا بِإِذْنِ أَصْحَابِهِ فَالَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدِي أَنْ لَا إِدْرَاجَ فِيهِ. وَقَدِ اعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَتَرْجَمَ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ وَفِي الشَّرِكَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ ابْنِ عُمَرَ ذَكَرَ الْإِذْنَ مَرَّةً غَيْرَ مَرْفُوعٍ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ فِيهِ الرَّفْعَ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ اسْتُفْتِيَ فِي ذَلِكَ فَأَفْتَى، وَالْمُفْتِي قَدْ لَا يَنْشَطُ فِي فَتْوَاهُ إِلَى بَيَانِ الْمُسْتَنَدِ، فَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مِسْعَرٍ، عَنْ صِلَةَ قَالَ سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ قِرَانِ التَّمْرِ قَالَ: لَا تَقْرُنْ، إِلَّا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَكَ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا حَدَّثَ بِالْقِصَّةِ ذَكَرَهَا كُلَّهَا مَرْفُوعَةً، وَلَمَّا اسْتُفْتِيَ أَفْتَى بِالْحُكْمِ الَّذِي حَفِظَهُ عَلَى وَفْقِهِ. وَلَمْ يُصَرِّحْ حِينَئِذٍ بِرَفْعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ: قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا النَّهْيِ هَلْ هُوَ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ؟ وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ فَالْقِرَانُ حَرَامٌ إِلَّا بِرِضَاهُمْ، وَيَحْصُلُ بِتَصْرِيحِهِمْ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ قَرِينَةِ حَالٍ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِمْ حَرُمَ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ اشْتُرِطَ رِضَاهُ، وَيَحْرُمُ لِغَيْرِهِ وَيَجُوزُ لَهُ هُوَ إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْآكِلِينَ مَعَهُ، وَحَسُنَ لِلْمُضِيفِ أَنْ لَا يَقْرُنَ لِيُسَاوِيَ ضَيْفَهُ، إِلَّا إِنْ كَانَ الشَّيْءُ كَثِيرًا يَفْضُلُ عَنْهُمْ، مَعَ أَنَّ الْأَدَبَ فِي الْأَكْلِ مُطْلَقًا تَرْكُ مَا يَقْتَضِي الشَّرَهَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْجِلًا يُرِيدُ الْإِسْرَاعَ لِشُغْلٍ آخَرَ. وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ شَرْطَ هَذَا الِاسْتِئْذَانُ إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِهِمْ حَيْثُ كَانُوا فِي قِلَّةٍ مِنَ الشَّيْءِ. فَأَمَّا الْيَوْمَ مَعَ اتِّسَاعِ الْحَالِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانٍ. وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الصَّوَابَ التَّفْصِيلُ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، كَيْفَ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ.
قُلْتُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي قَدَّمْتُهُ يُرْشِدُ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوِيٌّ، وَقِصَّةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ كَذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: إِنَّمَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْقِرَانِ لِأَنَّ فِيهِ شَرَهًا وَذَلِكَ يُزْرِي بِصَاحِبِهِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهِ غَبْنًا بِرَفِيقِهِ، وَقِيلَ إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَيْشِ وَقِلَّةِ الشَّيْءِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يُوَاسُونَ مِنَ الْقَلِيلِ وَإِذَا اجْتَمَعُوا رُبَّمَا آثَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ حَتَّى يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الْقَرْنِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ أَوْ تَعْظِيمِ اللُّقْمَةِ فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي ذَلِكَ تَطْييِبًا لِنُفُوسِ الْبَاقِينَ، وَأَمَّا قِصَّةُ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ فَظَاهِرُهَا أَنَّهَا مِنْ أَجْلِ الْغَبَنِ وَلِكَوْنِ مِلْكِهِمْ فِيهِ سَوَاءً، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَصْحَابِ الصُّفَّةِ انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَهُوَ فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ، وَأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute