لِلَّهِ، وَالْبَاءُ تَجِيءُ بِمَعْنَى اللَّامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُتَبَرِّكًا بِاسْمِهِ كَمَا يُقَالُ سِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَلْيَذْبَحْ بِسُنَّةِ اللَّهِ. قَالَ: وَأَمَّا كَرَاهَةُ بَعْضِهِمُ افْعَلْ كَذَا عَلَى اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ اسْمُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَضَعِيفٌ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا خَامِسًا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ مُطْلَقُ الْإِذْنِ فِي الذَّبِيحَةِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ السِّيَاقَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْإِذْنَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ لِلْمُسْتَأْذِنِ بِسْمِ اللَّهِ أَيِ ادْخُلْ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: صِيغَةُ مَنْ فِي قَوْلِهِ مَنْ ذَبَحَ صِيغَةُ عُمُومٍ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَقَدْ جَاءَتْ لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةٍ، وَتَنْزِيلِ صِيغَةِ الْعُمُومِ إِذَا وَرَدَتْ لِذَلِكَ عَلَى الصُّورَةِ النَّادِرَةِ يُسْتَنْكَرُ، فَإِذَا بَعُدَ تَخْصِيصُهُ بِمَنْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً مُعَيَّنَةً بَقِيَ التَّرَدُّدُ هَلِ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى مَنْ سَبَقَتْ لَهُ أُضْحِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ أَوْ حَمْلُهُ عَلَى ابْتِدَاءِ أُضْحِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ تَعْيِينٍ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ حُجَّةً لِمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ عَلَى مَنِ اشْتَرَى الْأُضْحِيَّةَ كَالْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّ الْأُضْحِيَّةَ عِنْدَهُمْ تَجِبُ بِالْتِزَامِ اللِّسَانِ وَبِنِيَّةِ الشِّرَاءِ وَبِنِيَّةِ الذَّبْحِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ لَا حُجَّةَ لِمَنْ أَوْجَبَ الضَّحِيَّةَ مُطْلَقًا، لَكِنْ حَصَلَ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ لَمْ يَقُلْ بِالْوُجُوبِ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ لِلنَّدَبِ. وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنِ اشْتَرَطَ تَقَدُّمَ الذَّبْحِ مِنَ الْإِمَامِ بَعْدَ صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، إِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ وَذَبْحِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ فِعْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلْيُعِدْ، أَيْ فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا ذَبَحَهُ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِمُخَالَفَتِهِ التَّقْيِيدَ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالتَّعْقِيبِ بِالْفَاءِ.
الْحَدِيثُ الثالث حَدِيثُ الْبَرَاءِ، أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ فِرَاسِ بْنِ يَحْيَى عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَبَاحِثُهُ قَرِيبًا.
قَوْلُهُ: (مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا) الْمُرَادُ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ: (فَلَا يَذْبَحْ) أَيِ الْأُضْحِيَّةَ (حَتَّى يَنْصَرِفَ) تَمَسَّكَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْأُضْحِيَّة قَدْرُ فَرَاغِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، وَإِنَّمَا شَرَطُوا فَرَاغَ الْخَطِيبِ لِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ مَقْصُودَتَانِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ، فَيُعْتَبَرُ مِقْدَارُ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَتَيْنِ عَلَى أَخَفِّ مَا يَجْزِي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِذَا ذَبَحَ بَعْدَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ الذَّبْحُ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ، سَوَاءٌ صَلَّى الْعِيدَ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ ذَبَحَ الْإِمَامُ أُضْحِيَّتَهُ أَمْ لَا، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْمِصْرِ وَالْحَاضِرِ وَالْبَادِ وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ: لَا تَجُوزُ أُضْحِيَّةٌ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ الْإِمَامُ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ لَا الشَّافِعِيِّ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى تَعْلِيقِ الذَّبْحِ بِالصَّلَاةِ، لَكِنْ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَنْ لَا صَلَاةَ عِيدٍ عَلَيْهِ مُخَاطَبٌ بِالتَّضْحِيَةِ حَمَلَ الصَّلَاةَ عَلَى وَقْتِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاللَّيْثُ: لَا ذَبْحَ قَبْلِ الصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ بَعْدَهَا وَلَوْ لَمْ يَذْبَحِ الْإِمَامُ، وَهُوَ خَاصٌ بِأَهْلِ الْمِصْرِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى وَالْبَوَادِي فَيَدْخُلُ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ فِي حَقِّهِمْ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي. وَقَالَ مَالِكٌ: يَذْبَحُونَ إِذَا نَحَرَ أَقْرَبُ أَئِمَّةِ الْقُرَى إِلَيْهِمْ، فَإِنْ نَحَرُوا قَبْلُ أَجْزَأَهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَرَبِيعَةُ: يَذْبَحُ أَهْلُ الْقُرَى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ جَازَتِ الْأُضْحِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ قَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلِ وَإِنْ ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ: يَجُوزُ بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَبْلَ خُطْبَتِهِ وَفِي أَثْنَائِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: حَتَّى يَنْصَرِفَ أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ، كَمَا فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخَرِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ إِنَّمَا الذَّبْحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ جُنْدَبٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا اللَّفْظُ أَظْهَرُ فِي اعْتِبَارِ فِعْلِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، أَيْ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، قَالَ: لَكِنْ إِنْ أَجْرَيْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ اقْتَضَى أَنْ لَا تُجْزِئَ الْأُضْحِيَّةُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الْعِيدَ، فَإِنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَهُوَ أَسْعَدُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute