وَأَغْرَبَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَمْ يُدْرِكْ نُوحًا فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا، وَأَمَّا أَثَرُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَهُوَ ابْنُ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذٍ وَهُوَ ابْنُ جَبَلٍ فَأَخْرَجَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَأَبَا طَلْحَةَ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنَ الطِّلَاءِ مَا طُبِخَ عَلَى الثُّلُثِ وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَالطِّلَاءُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ هُوَ الدِّبْسُ شُبِّهَ بِطِلَاءِ الْإِبِلِ وَهُوَ الْقَطِرَانُ الَّذِي يُدْهَنُ بِهِ، فَإِذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ حَتَّى تَمَدَّدَ أَشْبَهَ طِلَاءَ الْإِبِلِ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ غَالِبًا لَا يُسْكِرُ. وَقَدْ وَافَقَ عُمَرُ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ أَبُو مُوسَى، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُمَا، وَعَلِيٌّ وَأَبُو أُمَامَةَ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَغَيْرُهُمُ أَخْرَجَهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ، وَشَرْطُ تَنَاوُلِهِ عِنْدَهُمْ مَا لَمْ يُسْكِرْ، وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ تَوَرُّعًا.
قَوْلُهُ: (وَشَرِبَ الْبَرَاءُ، وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ) أَمَّا أَثَرُ الْبَرَاءِ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ الطِّلَاءَ عَلَى النِّصْفِ، أَيْ إِذَا طُبِخَ فَصَارَ عَلَى النِّصْفِ. وَأَمَّا أَثَرُ أَبِي جُحَيْفَةَ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَوَافَقَ الْبَرَاءُ، وَأَبُو جُحَيْفَةَ، وَجَرِيرٌ، وَأَنَسٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَشُرَيْحٌ، وَأَطْبَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُسْكِرُ حَرُمَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْأَشْرِبَةِ: بَلَغَنِي أَنَّ النِّصْفِ يُسْكِرُ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَعْنَابِ الْبِلَادِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ إِنَّهُ شَاهَدَ مِنَ الْعَصِيرِ مَا إِذَا طُبِخَ إِلَى الثُّلُثِ يَنْعَقِدُ وَلَا يَصِيرُ مُسْكِرًا أَصْلًا، وَمِنْهُ مَا إِذَا طُبِخَ إِلَى النِّصْفِ كَذَلِكَ. وَمِنْهُ مَا إِذَا طُبِخَ إِلَى الرُّبْعِ كَذَلِكَ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُ شَاهَدَ مِنْهُ مَا يَصِيرُ رُبًّا خَاثِرًا لَا يُسْكِرُ. وَمِنْهُ مَا لَوْ طُبِخَ لَا يَبْقَى غَيْرَ رُبُعِهِ لَا يَخْثُرُ وَلَا يَنْفَكُّ السُّكْرُ عَنْهُ، قَالَ: فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَمْرِ الطِّلَاءِ عَلَى مَا لَا يُسْكِرُ بَعْدَ الطَّبْخِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ النَّارَ لَا تُحِلُّ شَيْئًا وَلَا تُحَرِّمُهُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْهُ وَقَالَ: إِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي الطِّلَاءِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَصِيرُ مِثْلَ الْعَسَلِ وَيُؤْكَلُ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَيُشْرَبَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اشْرَبِ الْعَصِيرَ مَا دَامَ طَرِيًّا) وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَابِتٍ الثَّعْلَبِيِّ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعَصِيرِ. فَقَالَ: اشْرَبْهُ مَا كَانَ طَرِيًّا. قَالَ: إِنِّي طَبَخْتُ شَرَابًا وَفِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ: أَكُنْتَ شَارِبَهُ قَبْلَ أَنْ تَطْبُخَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّ النَّارَ لَا تُحِلُّ شَيْئًا قَدْ حُرِّمَ وَهَذَا يُقَيِّدُ مَا أُطْلِقَ فِي الْآثَارِ الْمَاضِيَةِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُطْبَخُ إِنَّمَا هُوَ الْعَصِيرُ الطَّرِيُّ قَبْلَ أَنْ يَتَخَمَّرَ، أَمَّا لَوْ صَارَ خَمْرًا فَطُبِخَ فَإِنَّ الطَّبْخَ لَا يُطَهِّرُهُ وَلَا يُحِلُّهُ إِلَّا عَلَى رَأْي مَنْ يُجِيزُ تَخْلِيلَ الْخَمْرِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، وَحُجَّتُهُمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ أَنَسٍ، وَأَبِي طَلْحَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ اشْرَبِ الْعَصِيرَ مَا لَمْ يَغْلِ وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ إِذَا بَدَأَ فِيهِ التَّغَيُّرُ يَمْتَنِعُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْغَلَيَانِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَقِيلَ إِذَا انْتَهَى غَلَيَانُهُ وَابْتَدَأَ فِي الْهُدُوِّ بَعْدَ الْغَلَيَانِ، وَقِيلَ إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْرُمُ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيءُ حَتَّى يَغْلِيَ وَيَقْذِفَ بِالزَّبَدِ. فَإِذَا غَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ حَرُمَ. وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ فَلَا يَمْتَنِعُ مُطْلَقًا وَلَوْ غَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ بَعْدَ الطَّبْخِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: يَمْتَنِعُ إِذَا صَارَ مُسْكِرًا شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ غَلَى أَمْ لَمْ يَغْلِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ الْإِسْكَارِ بِأَنْ يَغْلِيَ ثُمَّ يَسْكُنَ غَلَيَانُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُرَادُ مَنْ قَالَ: حَدُّ مَنْعِ شُرْبِهِ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ عُمَرُ) هُوَ ابْنُ الْخَطَّابِ (وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بِالتَّصْغِيرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute