للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قَالَ: لَا يَجُوزُ سَدُّ الرَّمَقِ مِنَ الْجُوعِ وَلَا مِنَ الْعَطَشِ بِالْخَمْرِ لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُهُ إِلَّا جُوعًا وَعَطَشًا، وَلِأَنَّهَا تَذْهَبُ بِالْعَقْلِ. وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ لَا تَسُدُّ مِنَ الْجُوعِ وَلَا تَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ لَمْ يَرِدِ السُّؤَالُ أَصْلًا، وَأَمَّا إِذْهَابُهَا الْعَقْلَ فَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ بَلْ هُوَ فِيمَا يُسَدُّ بِهِ الرَّمَقُ وَقَدْ لَا يَبْلُغُ إِلَى حَدِّ إِذْهَابِ الْعَقْلِ. قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ أَنْ يُرَدِّدَ الْأَمْرَ بِأَنَّ التَّنَاوُلَ مِنْهَا إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَهُوَ لَا يُغْنِي مِنَ الْجُوعِ وَلَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرًا فَهُوَ يُذْهِبُ الْعَقْلَ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّدَاوِي بِمَا يُذْهِبُ الْعَقْلَ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَتَدَاوَى مِنْ شَيْءٍ فَيَقَعُ فِي أَشَدَّ مِنْهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي وَلِلْعَطَشِ، قَالَ مَالِكٌ: لَا يَشْرَبُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُهُ إِلَّا عَطَشًا. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لَكِنِ التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي قَصْرَ الْمَنْعِ عَلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ بِطَبْعِهِ حَارًّا كَالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ، أَمَّا الْمُتَّخَذُ مِنْ شَيْءٍ بَارِدٍ كَالشَّعِيرِ فَلَا.

وَأَمَّا التَّدَاوِي فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ سُلِبَتْ بَعْدَ التَّحْرِيمِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَأَيْضًا فَتَحْرِيمُهَا مَجْزُومٌ بِهِ، وَكَوْنُهَا دَوَاءٌ مَشْكُوكٌ بَلْ يَتَرَجَّحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. ثُمَّ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يُسْكِرُ مِنْهَا، أَمَّا مَا يُسْكِرُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَاطِيهِ فِي التَّدَاوِي إِلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مَنِ اضْطُرَّ إِلَى إِزَالَةِ عَقْلِهِ لِقَطْعِ عُضْوٍ مِنَ الْأَكِلَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَقَدِ أطْلَقَ الرَّافِعِيُّ تَخْرِيجَهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي التَّدَاوِي، وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ هُنَا الْجَوَازَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا تَعَيَّنَ ذَاكَ طَرِيقًا إِلَى سَلَامَة بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ وَلَمْ يَجِدْ مَرْقَدًا غَيْرَهَا، وَقَدْ صَرَّحَ مَنْ أَجَازَ التَّدَاوِي بِالثَّانِي، وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ مُطْلَقًا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ الْمَيْتَةَ وَهِيَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْقَلِبَ إِلَى حَالَةٍ تَحِلُّ فِيهَا، فَالْخَمْرُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْقَلِبَ خَلًّا فَتَصِيرُ حَلَالًا أَوْلَى، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ دَعَتْهُ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَتَخَلَّصُ بِشُرْبِهَا جَازَ كَمَا لَوْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْغَصِّ الْجَوَازُ. وَهَذَا لَيْسَ مِنَ التَّدَاوِي الْمَحْضِ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الطِّبِّ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ.

ثُمَّ سَاقَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَائِشَةَ: كَانَ النَّبِيُّ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: تَرْجَمَ عَلَى شَيْءٍ وَأَعْقَبَهُ بِضِدِّهِ وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ نَصًّا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ الْإِشَارَةَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ إِلَى أَنَّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَبِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْإِشَارَةَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ فَدَلَّ الِامْتِنَانُ بِهِ عَلَى حِلِّهِ، فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ الشِّفَاءَ فِيمَا حَرَّمَ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ شَرَابُ الْحَلْوَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتِ الْحَلْوَى الْمَعْهُودَةَ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا الْمُتْرَفُونَ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا هِيَ حُلْوٌ يُشْرَبُ إِمَّا عَسَلٌ بِمَاءٍ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُشَاكِلُهُ انْتَهَى. ويحتمل أَنْ تَكُونَ الْحَلْوَى كَانَتْ تُطْلَقُ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا يُعْقَدُ أَوْ يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ، كَمَا أَنَّ الْعَسَلَ قَدْ يُؤْكَلُ إِذَا كَانَ جَامِدًا وَقَدْ يُشْرَبُ إِذَا كَانَ مَائِعًا، وَقَدْ يُخْلَطُ فِيهِ الْمَاءُ وَيُذَابُ ثُمَّ يُشْرَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ زِيَادَةٌ: وَإِنَّ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِ حَفْصَةَ أَهْدَتْ لَهَا عُكَّةَ عَسَلٍ فَشَرِبَ النَّبِيُّ مِنْهُ شَرْبَةً الْحَدِيثَ فِي ذِكْرِ الْمَغَافِيرِ. فَقَوْلُهُ: سَقَتْهُ شَرْبَةً مِنْ عَسَلٍ مُحْتَمِلٌ لِأَنْ يَكُونَ صِرْفًا حَيْثُ يَكُونُ مَائِعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَمْزُوجًا.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْحَلْوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّ شَيْءٍ حُلْوٍ، وَذِكْرُ الْعَسَلِ بَعْدَهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِهِ وَمَزِيَّتِهِ، وَهُوَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ.

وَفِيهِ جَوَازُ أَكْلِ لَذِيذِ الْأَطْعِمَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالْمُرَاقَبَةَ، لَا سِيَّمَا إِنْ حَصَلَ اتِّفَاقًا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ قَالَ: قَوْلُ عَائِشَةَ: كَانَ يُعْجِبُهُ الْحَلْوَى لَيْسَ عَلَى مَعْنَى كَثْرَةِ التَّشَهِّي لَهَا وَشِدَّةِ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَيْهَا وَتَأَنُّقِ الصَّنْعَةِ فِي اتِّخَاذِهَا كَفِعْلِ أَهْلِ التَّرَفُّهِ وَالشَّرَهِ. وَإِنَّمَا كَانَ إِذَا قُدِّمَتْ إِلَيْهِ يَنَالُ مِنْهَا نَيْلًا جَيِّدًا فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ