فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَسْتَقِيءَ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَتَضَمَّنَ حَدِيثُ أَنَسٍ الْأَكْلَ أَيْضًا، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْأَكْلِ قَائِمًا. قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ أَحَادِيثَ شُرْبِهِ قَائِمًا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْحَثِّ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى وَأَكْمَلُ. أَوْ لِأَنَّ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا ضَرَرًا فَأَنْكَرَهُ مِنْ أَجْلِهِ وَفَعَلَهُ هُوَ لِأَمْنِهِ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا الثَّانِي يُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ خِلْطًا يَكُونُ الْقَيْءُ دَوَاءَهُ.
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ النَّخَعِيِّ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِدَاءِ الْبَطْنِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمْ يُخَرِّجْ مَالِكٌ وَلَا الْبُخَارِيُّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ، وَأَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَمِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي عِيسَى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ مُعَنْعَنٌ، وَكَانَ شُعْبَةُ يَتَّقِي مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ مَا لَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، وَأَبُو عِيسَى غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَاضْطِرَابُ قَتَادَةَ فِيهِ مِمَّا يُعِلُّهُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى وَالْأَئِمَّةِ لَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِي سَنَدِهِ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ، وَلَا يُحْتَمَلُ مِنْهُ مِثْلُ هَذَا لِمُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَوَقَعَ لِلنَّوَوِيِّ مَا مُلَخَّصُهُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَشْكَلَ مَعْنَاهَا عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى قَالَ فِيهَا أَقْوَالًا بَاطِلَةً، وَزَادَ حَتَّى تَجَاسَرَ وَرَامَ أَنْ يُضَعِّفَ بَعْضَهَا، وَلَا وَجْهَ إِشَاعَةِ الْغَلَطَاتِ، بَلْ يُذْكَرُ الصَّوَابُ، وَيُشَارُ إِلَى التَّحْذِيرِ عَنِ الْغَلَطِ، وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ إِشْكَالٌ وَلَا فِيهَا ضَعِيفٌ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ النَّهْيَ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَشُرْبُهُ قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ نَسْخًا أَوْ غَيْرَهُ فَقَدْ غَلِطَ، فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ لَوْ ثَبَتَ التَّارِيخُ، وَفِعْلُهُ ﷺ لِبَيَانِ الْجَوَازِ لَا يَكُونُ فِي حَقِّهِ مَكْرُوهًا أَصْلًا، فَإِنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِلْبَيَانِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ، وَيُوَاظِبُ عَلَى الْأَفْضَلِ، وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِقَاءَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيءَ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
وَأَمَّا قَوْلُ عِيَاضٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَنْ شَرِبَ قَائِمًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّأَ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِشَارَتِهِ، وَكَوْنُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يُوجِبُوا الِاسْتِقَاءَةَ لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْبَابِهِ، فَمَنِ ادَّعَى مَنْعَ الِاسْتِحْبَابِ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ مُجَازِفٌ، وَكَيْفَ تُتْرَكُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِالتَّوَهُّمَاتِ، وَالدَّعَاوَى وَالتُّرَّهَاتِ؟ اهـ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ عِيَاضٍ التَّعَرُّضُ لِلِاسْتِحْبَابِ أَصْلًا، بَلْ وَنَقْلُ الِاتِّفَاقِ الْمَذْكُورِ إِنَّمَا هُوَ كَلَامُ الْمَازِرِيِّ كَمَا مَضَى، وَأَمَّا تَضْعِيفُ عِيَاضٍ لِلْأَحَادِيثِ فَلَمْ يَتَشَاغَلِ النَّوَوِيُّ بِالْجَوَابِ عَنْهُ. وَطَرِيقُ الْإِنْصَافِ أَنْ لَا تُدْفَعَ حُجَّةُ الْعَالِمِ بِالصَّدْرِ، فَأَمَّا إِشَارَتُهُ إِلَى تَضْعِيفِ حَدِيثِ أَنَسٍ بِكَوْنِ قَتَادَةَ مُدَلِّسًا وَقَدْ عَنْعَنَهُ فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي نَفْسِ السَّنَدِ بِمَا يَقْتَضِي سَمَاعَهُ لَهُ مِنْ أَنَسٍ، فَإِنَّ فِيهِ: قُلْنَا لِأَنَسٍ: فَالْأَكْلُ وَأَمَّا تَضْعِيفُهُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ بِأَنَّ أَبَا عِيسَى غَيْرُ مَشْهُورٍ فَهُوَ قَوْلٌ سَبَقَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمَدِينِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا قَتَادَةُ، لَكِنْ وَثَّقَهُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَمِثْلُ هَذَا يُخَرَّجُ فِي الشَّوَاهِدِ، وَدَعْوَاهُ اضْطِرَابَةٌ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّ لِقَتَادَةَ فِيهِ إِسْنَادَيْنِ وَهُوَ حَافِظٌ، وَأَمَّا تَضْعِيفُهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِعُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ وَمِثْلُهُ يُخَرِّجُ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَقَدْ تَابَعَهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، فَالْحَدِيثُ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ صَحِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّ قَوْلَهُ فَمَنْ نَسِيَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْعَامِدِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا خُصَّ النَّاسِي بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الْمُؤْمِنِ لَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ النَّهْيِ غَالِبًا إِلَّا نِسْيَانًا. قُلْتُ: وَقَدْ يُطْلَقُ النِّسْيَانُ وَيُرَادُ بِهِ التَّرْكُ فَيَشْمَلُ السَّهْوُ وَالْعَمْدُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ تَرَكَ امْتِثَالَ الْأَمْرِ وَشَرِبَ قَائِمًا فَلْيَسْتَقِئْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: لَمْ يَصِرِ أَحَدٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى أُصُولِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالْقَوْلِ بِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ابْنَ حَزْمٍ مِنْهُمْ جَزَمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَتَمَسَّكَ مَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute