يَمْنَعَ جَارَهُ إِلَخْ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَظَالِمِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ الَّا شَيْئَيْنِ، فَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ بِأَكْثَرَ فَاخْتَصَرَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَوْ أَقَلُّ الْجَمْعِ عِنْدَهُ اثْنَانِ. قُلْتُ: وَاخْتِصَارُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِسْيَانًا، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ فَذَكَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ الشَّيْئَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَزَادَ النَّهْيَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا، وَفِي مُسْنَدِ الْحُمَيْدِيِّ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ النَّهْيَ عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ أَوِ الْقِرْبَةِ، وَقَالَ: هَذَا آخِرُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قوله (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ) زَادَ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ قَالَ أَيُّوبُ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَوَهِمَ الْحَاكِمُ فَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِزِيَادَتِهِ وَالزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ رَاوِيَهَا لَمْ يُسَمَّ وَلَيْسَتْ مَوْصُولَةً، لَكِنْ أَخْرَجَهَا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بِنَحْوِ الْمَرْفُوعِ، وَفِي آخِرِهِ وَإِنَّ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ بَعْدَ النَّهْيِ إِلَى سِقَاءٍ فَاخْتَنَثَهُ فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ حَيَّةٌ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَ النَّهْيِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ النَّهْيِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ النَّهْيِ فَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ النَّهْيِ، ثُمَّ وَقَعَ أيضا بَعْدَ النَّهْيِ تَأْكِيدًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ هُنَا لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، كَذَا قَالَ، وَفِي نَقْلِ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ لِمَا سَأَذْكُرُهُ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجَازَ الشُّرْبَ مِنْ أَفْوَاهِ الْقِرَبِ وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ نَهْيٌ، وَبَالَغَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْمِلُ النَّهْيَ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ، كَذَا قَالَ مَعَ النَّقْلِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ فِيهِ نَهْيٌ، فَالِاعْتِذَارُ عَنْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ أَوْلَى، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ النَّهْيُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ هَذَا النَّهْيِ لِلتَّنْزِيهِ أَحَادِيثُ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ.
قُلْتُ: لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ إِلَّا مِنْ فِعْلِهِ ﷺ، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ كُلُّهَا مِنْ قَوْلِهِ. فَهِيَ أَرْجَحُ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَأْمُونٌ مِنْهُ ﷺ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِعِصْمَتِهِ وَلِطِيبِ نَكْهَتِهِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِرِفْقِهِ فِي صَبِّ الْمَاءِ وَبَيَانُ ذَلِكَ بِسِيَاقِ مَا وَرَدَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ، فَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ دُخُولُ شَيْءٍ مِنَ الْهَوَامِّ مَعَ الْمَاءِ فِي جَوْفِ السِّقَاءِ فَيَدْخُلُ فَمَ الشَّارِبِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ مَلَأَ السِّقَاءَ وَهُوَ يُشَاهِدُ الْمَاءَ يَدْخُلُ فِيهِ ثُمَّ رَبَطَهُ رَبْطًا مُحْكَمًا ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ حَلَّهُ فَشَرِبَهُ مِنْهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ، وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ بِلَفْظِ نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْتِنُهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا بِمَنْ يَشْرَبُ فَيَتَنَفَّسُ دَاخِلَ الْإِنَاءِ أَوْ بَاشَرَ بِفَمِهِ بَاطِنَ السِّقَاءِ، أَمَّا مَنْ صَبَّ مِنَ الْقِرْبَةِ دَاخِلَ فَمِهِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ فَلَا، وَمِنْهَا أَنَّ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ قَدْ يَغْلِبُهُ الْمَاءُ فَيَنْصَبُّ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهِ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَشْرَقَ بِهِ أَوْ تَبْتَلَّ ثِيَابُهُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَوَاحِدَةٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ تَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْكَرَاهَةِ، وَبِمَجْمُوعِهَا تَقْوَى الْكَرَاهَةُ جِدًّا.
وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ مَا مُلَخَّصُهُ: اخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ فَقِيلَ: يُخْشَى أَنْ يَكُونَ فِي الْوِعَاءِ حَيَوَانٌ أَوْ يَنْصَبُّ بِقُوَّةٍ فَيَشْرَقَ بِهِ أَوْ يَقْطَعَ الْعُرُوقَ الضَّعِيفَةَ الَّتِي بِإِزَاءِ الْقَلْبِ، فَرُبَّمَا كَانَ سَبَبُ الْهَلَاكِ أَوْ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِفَمِ السِّقَاءِ مِنْ بُخَارِ النَّفْسِ أَوْ بِمَا يُخَالِطُ الْمَاءَ مِنْ رِيقِ الشَّارِبِ فَيَتَقَذَّرُهُ غَيْرُهُ، أَوْ لِأَنَّ الْوِعَاءَ يَفْسُدُ بِذَلِكَ فِي الْعَادَةِ فَيَكُونُ مِنَ إِضَاعَةِ الْمَالِ، قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْفِقْهُ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَفِيهَا مَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ وَفِيهَا مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَالْقَاعِدَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تَرْجِيحُ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ، وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ بِالتَّحْرِيمِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute