قَوْلُهُ: (بَابُ تَمَنِّي الْمَرِيضِ الْمَوْتَ) أَيْ هَلْ يُمْنَعُ مُطْلَقًا أَوْ يَجُوزُ فِي حَالَةٍ؟ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ نَهْيُ تَمَنِّي الْمَرِيضِ الْمَوْتَ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُ تَمَنِّي الْمَرِيضِ. وَذَكَرَ فِي الْبَابِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ أَنَسٍ
قَوْلُهُ: (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ) الْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ، وَالْمُرَادُ هُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا، وَقَوْلُهُ: مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى الضُّرِّ الدُّنْيَوِيِّ، فَإِنْ وَجَدَ الضر الْأُخْرَوِيَّ بِأَنْ خَشِيَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَنَّ فِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ أَمْرٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: فَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلَا مُفَرِّطٍ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبَسٍ وَيُقَالُ: عَابِسٌ الْغِفَارِيُّ أَنَّهُ قَالَ: يَا طَاعُونُ خُذْنِي. فَقَالَ لَهُ عُلَيْمٌ الْكِنْدِيُّ: لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا، إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ، الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ نَحْوَهُ وَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا عَمَّرَ الْمُسْلِمُ كَانَ خَيْرًا لَهُ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ الْجَوَابُ نَحْوَهُ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ مُعَاذٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فِي الْقَوْلِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَفِيهِ: وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمِ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا) فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الدَّعَوَاتِ: فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ.
قَوْلُهُ: (فَلْيَقُلِ … إِلَخْ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ، لِأَنَّ فِي التَّمَنِّي الْمُطْلَقِ نَوْعَ اعْتِرَاضٍ وَمُرَاغَمَةٍ لِلْقَدْرِ الْمَحْتُومِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا نَوْعُ تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ إِلَخْ، فِيهِ مَا يَصْرِفُ الْأَمْرَ عَنْ حَقِيقَتِهِ مِنَ الْوُجُوبِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِمُطْلَقِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ لَا يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ. الْحَدِيثَ، أَيِ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى اللُّقَيْمَاتِ فَلِيَقْتَصِرْ عَلَى الثُّلُثِ، فَهُوَ إِذْنٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الثُّلُثِ، لَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَلَا الِاسْتِحْبَابَ.
قَوْلُهُ: (مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ) عَبَّرَ فِي الْحَيَاةِ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَتْ؛ لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ، فَحَسَنٌ أَنْ يَأْتِيَ بِالصِّيغَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاتِّصَافِ بِالْحَيَاةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْوَفَاةُ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ حَسُنَ أَنْ يَأْتِيَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ يشمل مَا إِذَا كَانَ الضُّرُّ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا، وَسَيَأْتِي فِي التَّمَنِّي مِنْ رِوَايَةِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُهُ، فَلَعَلَّهُ رَأَى أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ مِنَ التَّمَنِّي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ خَبَّابٍ
قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ) لِشُعْبَةَ فِيهِ إِسْنَادٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ غُنْدَرٍ عَنْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى خَبَّابٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ) فِي رِوَايَةِ حَارِثَةَ: وَقَدِ اكْتَوَى فِي بَطْنِهِ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ لَقِيَ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَقِيتُ، أَيْ: مِنَ الْوَجَعِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَحَكَى شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْبَلَاءِ مَا فُتِحَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَجِدُ دِرْهَمًا، كَمَا وَقَعَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ حَارِثَةَ الْمَذْكُورَةِ عَنْهُ، قَالَ: لَقَدْ كُنْتُ وَمَا أَجِدُ دِرْهَمًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَفِي نَاحِيَةِ بَيْتِي أَرْبَعُونَ أَلْفًا، يَعْنِي الْآنَ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ أَكْثَرَ مَالًا مِنْهُ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَا لَقِيَ مِنَ التَّعْذِيبِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute