قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ.
قوله: (بَابُ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْحُمَّى) الْوَبَاءُ يُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ، وَجَمْعُ الْمَقْصُورِ بِلَا هَمْزٍ: أَوْبِيَةٌ، وَجَمْعُ الْمَهْمُوزِ: أَوْبَاءٌ، يُقَالُ: أَوْبَأَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ مُؤْبِئَةٌ، وَوَبِئَتْ فَهِيَ وَبِئَةٌ، وَوَبِئَتْ بِضَمِّ الْوَاوِ فَهِو مَوْبُوءَةٌ، قَالَ عِيَاضٌ: الْوَبَاءُ عُمُومُ الْأَمْرَاضِ، وَقَدْ أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى الطَّاعُونِ أَنَّهُ وَبَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِهِ، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ وَبَاءٍ طَاعُونًا، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُ الدَّاوُدِيِّ لَمَّا ذَكَرَ الطَّاعُونَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ الْوَبَاءُ، وَكَذَا جَاءَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّاعُونَ هُوَ الْوَبَاءُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: الطَّاعُونُ الْمَرَضُ الْعَامُّ، وَالْوَبَاءُ الَّذِي يَفْسُدُ لَهُ الْهَوَاءُ فَتَفْسُدُ بِهِ الْأَمْزِجَةُ وَالْأَبْدَانُ. وَقَالَ ابْنُ سَيْنَاءَ: الْوَبَاءُ يَنْشَأُ عَنْ فَسَادِ جَوْهَرِ الْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الرُّوحِ وَمَدَدُهُ. قُلْتُ: وَيُفَارِقُ الطَّاعُونُ الْوَبَاءَ بِخُصُوصِ سَبَبِهِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْبَاءِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ طَعْنِ الْجِنِّ كَمَا سَأَذْكُرُهُ مُبَيَّنًا فِي بَابِ مَا يُذْكَرُ مِنَ الطَّاعُونِ مِنْ كِتَابِ الطِّبِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَسَاقَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عَائِشَةَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ، وَوَقَعَ فِيهِ ذِكْرُ الْحُمَّى وَلَمْ يَقَعْ فِي سِيَاقِهِ لَفْظُ: الْوَبَاءِ، لَكِنَّهُ تَرْجَمَ بِذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَهُوَ مَا سَبَقَ فِي أَوَاخِرِ الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ. وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْوَبَاءَ أَعَمُّ مِنَ الطَّاعُونِ، فَإِنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ مَا كَانَ إِلَّا بِالْحُمَّى كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، فَدَعَا النَّبِيَّ ﷺ أَنْ يُنْقَلَ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي بَابِ مَقْدَمِ النَّبِيِّ ﷺ الْمَدِينَةَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَغَازِي، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النَّاسِ الدُّعَاءَ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ؟ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ بِرَفْعِ الْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ حَتْمُ مَقْضِيٍّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَبَثًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّعَبُّدَ بِالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ فِي طُولِ الْعُمْرِ أَوْ رَفْعِ الْمَرَضِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَسَيِّئِ الْأَسْقَامِ وَمُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ، فَمَنْ يُنْكِرُ التَّدَاوِي بِالدُّعَاءِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُنْكِرَ التَّدَاوِي بِالْعَقَاقِيرِ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ إِلَّا شُذُوذٌ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَفِي الِالْتِجَاءِ إِلَى الدُّعَاءِ مَزِيدُ فَائِدَةٍ لَيْسَتْ فِي التَّدَاوِي بِغَيْرِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ، بَلْ مَنْعُ الدُّعَاءِ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اتِّكَالًا عَلَى مَا قُدِّرَ، فَيَلْزَمُ تَرْكُ الْعَمَلِ جُمْلَةً، وَرَدُّ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ كَرَدِّ السَّهْمِ بِالتُّرْسِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ بِالْقَدْرِ أَنْ لَا يَتَتَرَّسَ مِنْ رَمْي السَّهْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(خَاتِمَةٌ):
اشْتَمَلَ كِتَابُ الْمَرْضَى مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، الْمُعَلَّقُ مِنْهَا سَبْعَةٌ، وَالْبَقِيَّةُ مَوْصُولَةٌ، الْمُكَرَّرُ مِنْهَا فِيهِ وَفِيمَا مَضَى أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ طَرِيقًا وَالْبَقِيَّةُ خَالِصَةٌ، وَافَقَهُ مُسْلِمٌ عَلَى تَخْرِيجِهَا سِوَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ. وَحَدِيثِ عَطَاءٍ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْحَبِيبَتَيْنِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: وَا رَأْسَاهُ - إِلَى قَوْلِهِ -: بَلِ أَنَا وَا رَأْسَاهُ فَقَطْ. وَفِيهِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ثَلَاثَةُ آثَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute