رَفَعَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ فِي رِوَايَةِ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِيرَادِ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَيْضًا مَعَ نُزُولِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِهَا عَنِ الْأُولَى لِلتَّصْرِيحِ فِي الْأُولَى بِقَوْلِ مَرْوَانَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ، وَوَقَعَتْ فِي الثَّانِيَةِ بِالْعَنْعَنَةِ.
قَوْلُهُ: (رَوَاهُ الْقُمِّيُّ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ هَانِئِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ، لِجَدِّهِ أَبِي عَامِرٍ صُحْبَةٌ، وَكُنْيَةُ يَعْقُوبَ أَبُو الْحَسَنِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ قُمَّ وَنَزَلَ الرَّيَّ، قَوَّاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ. وَلَيْثٌ شَيْخُهُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمٍ الْكُوفِيُّ سَيِّئُ الْحِفْظِ. وَقَدْ وَقَعَ لَنَا هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ الْقُمِّيِّ مَوْصُولًا فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ وَفِي الْغَيْلَانِيَّاتِ وفِي جُزْءِ ابْنِ بَخِيتٍ، كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْهُ بِهَذَا السَّنَدِ، وَقَصَّرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَنَسَبَهُ إِلَى تَخْرِيجِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، وَالَّذِي عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ بِهَذَا السَّنَدِ حَدِيثٌ آخَرُ فِي الْحِجَامَةِ، لَفْظُهُ: احْتَجِمُوا، لَا يَتَبَيَّغْ بِكُمُ الدَّمُ فَيَقْتُلَكُمْ.
قَوْلُهُ: (فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمُ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَالْحِجَامَةُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَذْكُورَةِ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ فَفِي مَصَّةٍ مِنَ الْحِجَامِ، أَوْ مَصَّةٍ مِنَ الْعَسَلِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْكَيَّ لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَأَغْرَبَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ، فَقَالَ فِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ: الْحَدِيثُ الْخَامِسُ عَشَرَ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، قَالَ: وَبَعْضُ الرُّوَاةِ يَقُولُ فِيهِ: عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمِ الشِّفَاءُ.
وَهَذَا الَّذِي عَزَاهُ الْبُخَارِيِّ لَمْ أَرَهُ فِيهِ أَصْلًا، بَلْ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِيهِ هَلْ هُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَا وَاسِطَةٍ؟ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَبْرَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا يُعَذَّبَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَلَمْ أَرَهُ مِنْ رِوَايَةِ طَاوُسٍ أَصْلًا، وَأَمَّا مُجَاهِدُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ إِلَّا تَعْلِيقًا كَمَا بَيَّنْتُهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ وَصَلَهُ، وَسِيَاقُ لَفْظِهِ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ انْتَظَمَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جُمْلَةِ مَا يَتَدَاوَى بِهِ النَّاسُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجْمَ يَسْتَفْرِغُ الدَّمَ وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَخْلَاطِ، وَالْحَجْمُ أَنْجَحُهَا شِفَاءً عِنْدَ هَيَجَانِ الدَّمِ، وَأَمَّا الْعَسَلُ فَهُوَ مُسَهِّلٌ لِلْأَخْلَاطِ الْبَلْغَمِيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَعْجُونَاتِ لِيَحْفَظَ عَلَى تِلْكَ الْأَدْوِيَةِ قُوَاهَا، وَيُخْرِجَهَا مِنَ الْبَدَنِ، وَأَمَّا الْكَيُّ فَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَلْطِ الْبَاغِي الَّذِي لَا تَنْحَسِمُ مَادَّتُهُ إِلَّا بِهِ، وَلِهَذَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ الشَّدِيدِ وَالْخَطَرِ الْعَظِيمِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ فِي أَمْثَالِهَا: آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ، وَقَدْ كَوَى النَّبِيُّ ﷺ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَغَيْرَهُ، وَاكْتَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
قُلْتُ: وَلَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ ﷺ الْحَصْرَ فِي الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ الشِّفَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا نَبَّهَ بِهَا عَلَى أُصُولِ الْعِلَاجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَاضَ الِامْتِلَائِيَّةَ تَكُونُ دَمَوِيَّةً وَصَفْرَاوِيَّةً وَبَلْغَمِيَّةً وَسَوْدَاوِيَّةً، وَشِفَاءُ الدَّمَوِيَّةِ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْحَجْمُ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَإِلْفِهِمْ لَهُ، بِخِلَافِ الْفَصْدِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْحَجْمِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا لَهَا غَالِبًا. عَلَى أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: شَرْطَةُ مِحْجَمٍ مَا قَدْ يَتَنَاوَلُ الْفَصْدَ، وَأَيْضًا فَالْحَجْمُ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ أَنْجَحُ مِنَ الْفَصْدِ، وَالْفَصْدُ فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَيْسَتْ بِحَارَّةٍ أَنْجَحُ مِنَ الْحَجْمِ. وَأَمَّا الِامْتِلَاءُ الصَّفْرَاوِيُّ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ فَدَوَاؤُهُ بِالْمُسَهِّلِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَسَلِ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَأَمَّا الْكَيُّ فَإِنَّهُ يَقَعُ آخِرًا لِإِخْرَاجِ مَا يَتَعَسَّرُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْفَضَلَاتِ ; وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ مَعَ إِثْبَاتِهِ الشِّفَاءَ فِيهِ، إِمَّا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَحْسِمُ الْمَادَّةَ بِطَبْعِهِ فَكَرِهَهُ لِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يُبَادِرُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ حُصُولِ الدَّاءِ لِظَنِّهِمُ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute