هَذَا الْمَسْلَكِ، فَرَدُّوا حَدِيثَ لَا عَدْوَى بِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْهُ إِمَّا لِشَكِّهِ فِيهِ، وَإِمَّا لِثُبُوتِ عَكْسِهِ عِنْدَهُ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي بَابِ لَا عَدْوَى، قَالُوا: وَالْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى الِاجْتِنَابِ أَكْثَرُ مَخَارِجَ وَأَكْثَرُ طُرُقًا فَالْمَصِيرُ إِلَيْهَا أَوْلَى، قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا فِي الْقَصْعَةِ وَقَالَ: كُلْ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، فَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَبَيَّنَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى رَاوِيهِ وَرَجَّحَ وَقْفَهُ عَلَى عُمَرَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ ﷺ أَكَلَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْقَصْعَةِ، قَالَهُ الْكَلَابَاذِيُّ فِي مَعَانِي الْأَخْبَارِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ أَوْلَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَحَدِيثُ لَا عَدْوَى ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا مَعْنًى لِدَعْوَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي طَرِيقِ الْجَمْعِ مَسَالِكُ أُخْرَى.
أَحَدُهَا: نَفْيُ الْعَدْوَى جُمْلَةً وَحَمْلُ الْأَمْرِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ عَلَى رِعَايَةِ خَاطِرِ الْمَجْذُومِ، لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى الصَّحِيحَ الْبَدَنِ السَّلِيمَ مِنَ الْآفَةِ تَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ وَتَزْدَادُ حَسْرَتُهُ، وَنَحْوُهُ حَدِيثُ لَا تُدِيمُوا النَّظَرَ إِلَى الْمَجْذُومِينَ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، ثَانِيهَا: حَمْلُ الْخِطَابِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَحَيْثُ جَاءَ: لَا عَدْوَى كَانَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ مَنْ قَوِيَ يَقِينُهُ وَصَحَّ تَوَكُّلُهُ بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ اعْتِقَادَ الْعَدْوَى، كَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ التَّطَيُّرَ الَّذِي يَقَعُ فِي نَفْسِ كُلِّ أَحَدٍ، لَكِنَّ الْقَوِيَّ الْيَقِينِ لَا يَتَأَثَّرُ بِهِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا تَدْفَعُ قُوَّةُ الطَّبِيعَةِ الْعِلَّةَ فَتُبْطِلُهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي أَكْلِ الْمَجْذُومِ مِنَ الْقَصْعَةِ وَسَائِرِ مَا وَرَدَ مِنْ جِنْسِهِ، وَحَيْثُ جَاءَ: فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ، كَانَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ مَنْ ضَعُفَ يَقِينُهُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى دَفْعِ اعْتِقَادِ الْعَدْوَى، فَأُرِيدَ بِذَلِكَ سَدُّ بَابِ اعْتِقَادِ الْعَدْوَى عَنْهُ بِأَنْ لَا يُبَاشِرَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِثْبَاتِهَا. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا كَرَاهِيَتُهُ ﷺ الْكَيَّ مَعَ إِذْنِهِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَقَدْ فَعَلَ هُوَ ﷺ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَأَسَّى بِهِ كُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ.
ثَالِثُ الْمَسَالِكِ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: إِثْبَاتُ الْعَدْوَى فِي الْجُذَامِ وَنَحْوِهِ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ نَفْيِ الْعَدْوَى، قَالَ: فَيَكُونُ مَعَنِي قَوْلِهِ: لَا عَدْوَى، أي: إِلَّا مِنَ الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالْجَرَبِ مَثَلًا، قَالَ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا إِلَّا مَا تَقَدَّمَ تَبْيِينِي لَهُ أَنَّ فِيهِ الْعَدْوَى. وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ. رَابِعُهَا: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعَدْوَى فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ لِأَمْرٍ طَبِيعِيٍّ وَهُوَ انْتِقَالُ الدَّاءِ مِنْ جَسَدٍ لِجَسَدٍ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَشَمِّ الرَّائِحَةِ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ فِي الْعَادَةِ انْتِقَالُ الدَّاءِ مِنَ الْمَرِيضِ إِلَى الصَّحِيحِ بِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ابْنِ قُتَيْبَةَ، فَقَالَ: الْمَجْذُومُ تَشْتَدُّ رَائِحَتُهُ حَتَّى يُسْقِمَ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَتَهُ وَمُحَادَثَتَهُ وَمُضَاجَعَتَهُ، وَكَذَا يَقَعُ كَثِيرًا بِالْمَرْأَةِ مِنَ الرَّجُلِ وَعَكْسِهِ، وَيَنْزِعُ الْوَلَدَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا يَأْمُرُ الْأَطِبَّاءَ بِتَرْكِ مُخَالَطَةِ الْمَجْذُومِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْعَدْوَى بَلْ عَلَى طَرِيقِ التَّأَثُّرِ بِالرَّائِحَةِ؛ لِأَنَّهَا تُسْقِمُ مَنْ وَاظَبَ اشْتِمَامَهَا، قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ؛ لِأَنَّ الْجَرَبَ الرَّطْبَ قَدْ يَكُونُ بِالْبَعِيرِ، فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِلَ أَوْ حَكَّكَهَا وَأَوَى إِلَى مَبَارِكِهَا وَصَلَ إِلَيْهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُ، وَكَذَا بِالنَّظَرِ نَحْوُ مَا بِهِ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا عَدْوَى فَلَهُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْمَرَضُ بِمَكَانٍ كَالطَّاعُونِ فَيَفِرُّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ، لِأَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنَ الْفِرَارِ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ.
الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادَ ينَفْيِ الْعَدْوَى أَنَّ شَيْئًا لَا يُعْدِي بِطَبْعِهِ نَفْيًا لِمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْأَمْرَاضَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ ﷺ اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي، وَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّنُوِّ مِنْهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا، فَفِي نَهْيُهُ إِثْبَاتَ الْأَسْبَابِ، وَفِي فِعْلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَإِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute