للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ أَشَارَ أَوَّلًا بِالرُّجُوعِ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ مَقَامُ التَّوَكُّلِ لَمَّا رَأَى أَكْثَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ جَنَحُوا إِلَيْهِ فَرَجَعَ عَنْ رَأْيِ الرُّجُوعِ، وَنَاظَرَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ بِالْحُجَّةِ فَتَبِعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِالنَّصِّ فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ رُجُوعِ مَنْ أَرَادَ دُخُولَ بَلْدَةٍ فَعَلِمَ أَنَّ بِهَا الطَّاعُونَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الطِّيَرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَنْعِ الْإِلْقَاءِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أَوْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ مَنْ يَدْخُلُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا أَنْ لَوْ دَخَلَهَا وَطَعْنُ الْعَدْوَى الْمَنْهِيِّ عَنْهَا كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّنْزِيهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ لِمَنْ قَوِيَ تَوَكُّلُهُ وَصَحَّ يَقِينُهُ، وَتَمَسَّكُوا بِمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَرْغَ كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جِئْتُ عُمَرَ حِينَ قَدِمَ فَوَجَدْتُهُ قَائِلًا فِي خِبَائِهِ، فَانْتَظَرْتُهُ فِي ظِلِّ الْخِبَاءِ، فَسَمِعَتْهُ يَقُولُ حِينَ تَضَوَّرَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رُجُوعِي مِنْ سَرْغَ، وَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا.

وَأَجَابَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: وَكَيْفَ يَنْدَمُ عَلَى فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ وَيَرْجِعُ عَنْهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ سَنَدَهُ قَوِيٌّ وَالْأَخْبَارَ الْقَوِيَّةَ لَا تُرَدُّ بِمِثْلِ هَذَا مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَأَنَّ الْقُدُومَ عَلَيْهِ جَائِزٌ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّوَكُّلُ، وَالِانْصِرَافُ عَنْهُ رُخْصَةٌ. وَيَحْتَمِلُ - وَهُوَ أَقْوَى - أَنْ يَكُونَ سَبَبُ نَدَمِهِ أَنَّهُ خَرَجَ لِأَمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قُرْبِ الْبَلَدِ الْمَقْصُودِ رَجَعَ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْبَلَدِ الْمَقْصُودِ إِلَى أَنْ يَرْتَفِعَ الطَّاعُونُ فَيَدْخُلُ إِلَيْهَا وَيَقْضِي حَاجَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّاعُونَ ارْتَفَعَ عَنْهَا عَنْ قُرْبٍ، فَلَعَلَّهُ كَانَ بَلَغَهُ ذَلِكَ فَنَدِمَ عَلَى رُجُوعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، لَا عَلَى مُطْلَقِ رُجُوعِهِ، فَرَأَى أَنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ لَكَانَ أَوْلَى لِمَا فِي رُجُوعِهِ عَلَى الْعَسْكَرِ الَّذِي كَانَ صُحْبَتُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَالْخَبَرُ لَمْ يَرِدْ بِالْأَمْرِ بِالرُّجُوعِ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّ النَّاسَ قَدْ نَحَلُونِي ثَلَاثًا أَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْهُنَّ: زَعَمُوا أَنِّي فَرَرْتُ مِنَ الطَّاعُونِ وَأَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الطِّلَاءَ وَالْمَكْسَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ غَيْرِ عُمَرَ التَّصْرِيحُ بِالْعَمَلِ فِي ذَلِكَ بِمَحْضِ التَّوَكُّلِ، فَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ خَرَجَ غَازِيًا نَحْوَ مِصْرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أُمَرَاءُ مِصْرَ أَنَّ الطَّاعُونَ قَدْ وَقَعَ، فَقَالَ: إِنَّمَا خَرَجْنَا لِلطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ، فَدَخَلَهَا فَلَقِيَ طَعْنًا فِي جَبْهَتِهِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَنْعُ مَنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدٍ هُوَ فِيهَا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي مُنِيبٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ فِي الطَّاعُونِ: إِنَّ هَذَا رِجْزٌ مِثْلُ السَّيْلِ، مَنْ تَنَكَّبَهُ أَخْطَأَهُ. وَمِثْلُ النَّارِ، مَنْ أَقَامَ أَحْرَقَتْهُ، فَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ: إِنَّ هَذَا رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَقَبْضُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَأَبُو مُنِيبٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ، وَهُوَ دِمَشْقِيٌّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ يُعْرَفُ بِالْأَحْدَبِ، وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ غَيْرُ أَبِي مُنِيبٍ الْجُرَشِيُّ فِيمَا تَرَجَّحَ عِنْدِي؛ لِأَنَّ الْأَحْدَبَ أَقْدَمُ مِنَ الْجُرَشِيِّ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْبُخَارِيُّ سَمَاعَ الْأَحْدَبِ مِنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَالْجُرَشِيُّ يَرْوِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَنَحْوُهُ.

وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقٌ أُخْرَى أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ شُرَحْبِيلَ بْنِ شُفْعَةَ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَشُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ بِمَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ بِمَعْنَاهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَقَعَتْ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.