قَبْلَ وُقُوعِهِ كَاهِنًا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْكَهَنَةُ قَوْمٌ لَهُمُ أَذْهَانٌ حَادَّةٌ وَنُفُوسٌ شِرِّيرَةٌ وَطِبَاعٌ نَارِيَّةٌ، فَأَلِفَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاسُبِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَسَاعَدَتْهُمْ بِكُلِّ مَا تَصِلُ قُدْرَتُهُمُ إِلَيْهِ. وَكَانَتِ الْكَهَانَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاشِيَةً خُصُوصًا فِي الْعَرَبِ لِانْقِطَاعِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ.
وَهِيَ عَلَى أَصْنَافٍ: مِنْهَا مَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ، فَإِنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَصْعَدُونَ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ فَيَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى أَنْ يَدْنُوَ الْأَعْلَى بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْكَلَامَ فَيُلْقِيهِ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، إِلَى أَنْ يَتَلَقَّاهُ مَنْ يُلْقهِ فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ فَيَزِيدُ فِيهِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ حُرِسَتِ السَّمَاءُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَبَقِيَ مِنَ اسْتِرَاقِهِمْ مَا يَتَخَطَّفُهُ الْأَعْلَى فَيُلْقِيهِ إِلَى الْأَسْفَلِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الشِّهَابُ، إِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: ﴿إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ وَكَانَتِ إِصَابَةُ الْكُهَّانِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَثِيرَةً جِدًّا كَمَا جَاءَ فِي أَخْبَارِ شِقٍّ وَسُطَيْحٍ وَنَحْوِهِمَا، وَأَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَدَرَ ذَلِكَ جِدًّا حَتَّى كَادَ يَضْمَحِلُّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثَانِيهَا مَا يُخْبِرُ الْجِنِّيُّ بِهِ مَنْ يُوَالِيهِ بِمَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ غَالِبًا، أَوْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ لَا مَنْ بَعُدَ. ثَالِثُهَا مَا يَسْتَنِدُ إِلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ وَحَدْسٍ، وَهَذَا قَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ لِبَعْضِ النَّاسِ قُوَّةً مَعَ كَثْرَةِ الْكَذِبِ فِيهِ. رَابِعُهَا مَا يَسْتَنِدُ إِلَى التَّجْرِبَةِ وَالْعَادَةِ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَى الْحَادِثِ بِمَا وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ مَا يُضَاهِي السِّحْرَ، وَقَدْ يَعْتَضِدُ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِالزَّجْرِ وَالطَّرْقِ وَالنُّجُومِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ شَرْعًا.
وَوَرَدَ فِي ذَمِّ الْكَهَانَةِ مَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَعِمْرَانَ ابْنِ حُصَيْنٍ أَخْرَجَهُمَا الْبَزَّارُ بِسَنَدَيْنِ جَيِّدَيْنِ وَلَفْظُهُمَا: مَنْ أتَى كَاهِنًا، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ امْرَأَةٍ مِنْ أزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ وَمِنَ الرُّوَاةِ مَنْ سَمَّاهَا حَفْصَةَ - بِلَفْظِ: مَنْ أَتَى عَرَّافًا، وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَلَفْظُهُ: مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ سَاحِرًا أَوْ كَاهِنًا، وَاتَّفَقَتْ أَلْفَاظُهُمْ عَلَى الْوَعِيدِ بِلَفْظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِلَّا حَدِيثَ مُسْلِمٍ فَقَالَ فِيهِ: لَمْ يُقْبَلْ لَهُمَا صَلَاةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَمَنْ أَتَاهُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَهُ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ مَعَ صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا أَوْلَى مِنْ هَذَا، وَالْوَعِيدُ جَاءَ تَارَةً بِعَدَمِ قَبُولِ الصَّلَاةِ وَتَارَةً بِالتَّكْفِيرِ، فَيُحْمَلُ عَلَى حَالَيْنِ مِنَ الْآتِي أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ. وَالْعَرَّافُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَنْ يَسْتَخْرِجُ الْوُقُوفَ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ بِضَرْبٍ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) وَسَاقَهُ بِطُولِهِ، كَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَفَصَّلَ مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قِصَّةَ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ فَجَعَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا، كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي تَلِي طَرِيقَ ابْنِ مُسَافِرٍ هَذِهِ، وَقَدْ رَوَى اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَصْلَ الْحَدِيثِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الدِّيَاتِ. وَكَذَا أَخْرَجَ هُنَاكَ طَرِيقَ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدٍ مَعًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَصْلِ الْحَدِيثِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَيَأْتِي شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَنِينِ وَالْغُرَّةِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ) هُوَ حَمَلٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الْخَفِيفَةِ ابْنُ مَالِكٍ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيِّ، بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ مَعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكُنْيَةُ حَمَلٍ الْمَذْكُورِ أَبُو نَضْلَةَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ. وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ: فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ، أَيْ قُضِيَ عَلَى مَنْ هِيَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ، وَفِي رِوَايَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute