مِمَّا فَاتَ الزُّهْرِيَّ سَمَاعُهُ مِنْ عُرْوَةَ، فَحَمَلَهُ عَنْ وَلَدِهِ عَنْهُ، مَعَ كَثْرَةِ مَا عند الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ وَصَفَهُ الزُّهْرِيُّ بِسَعَةِ الْعِلْمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْقِلِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ، وَكَذَا لِلْمُصَنِّفِ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، وَفِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، وَلَمْ أَقِفْ لِيَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ فِي الْبُخَارِيِّ إِلَّا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، وَتَقَدَّمَ مَوْصُولًا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَكَذَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
قَوْلُهُ: (سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: سَأَلَ نَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مَعْقِلٍ مِثْلُهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ مَعْقِلٍ مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ سُمِّيَ مِمَّنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِهِ: قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ، فَقَالَ: لَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَؤُلَاءِ الْكُهَّانُ فِيمَا عُلِمَ بِشَهَادَةِ الِامْتِحَانِ قَوْمٌ لَهُمْ أَذْهَانٌ حَادَّةٌ وَنُفُوسٌ شِرِّيرَةٌ وَطَبَائِعُ نَارِيَّةٌ، فَهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى الْجِنِّ فِي أُمُورِهِمْ وَيَسْتَفْتُونَهُمْ فِي الْحَوَادِثِ فَيُلْقُونَ إِلَيْهِمُ الْكَلِمَاتِ، ثُمَّ تَعَرَّضَ إِلَى مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الشُّعَرَاءِ بَعْدَ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ﴾
قَوْلُهُ: (فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَيْسُوا بِشَيْءٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ لَهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، أَيْ لَيْسَ قَوْلُهُمْ بِشَيْءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ عَمِلَ شَيْئًا وَلَمْ يُحْكِمْهُ: مَا عَمِلَ شَيْئًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَرَافَعُونَ إِلَى الْكُهَّانِ فِي الْوَقَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَيَرْجِعُونَ إِلَى أَقْوَالِهِمْ، وَقَدْ انْقَطَعَتِ الْكِهَانَةُ بِالْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، لَكِنْ بَقِيَ فِي الْوُجُودِ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ إِتْيَانِهِمْ فَلَا يَحِلُّ إِتْيَانُهُمْ وَلَا تَصْدِيقُهُمْ.
قَوْلُهُ: (إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَنَا أَحْيَانَا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا) فِي رِوَايَةِ يُونُسَ: فَإِنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ، هَذَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ إِشْكَالًا عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ: لَيْسُوا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ فَهِمَ منه أَنَّهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ أَصْلًا فَأَجَابَهُ ﷺ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ الصِّدْقِ، وَأَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ أَنْ يُصَدَّقَ لَمْ يَتْرُكْهُ خَالِصًا بَلْ يَشُوبُهُ بِالْكَذِبِ.
قَوْلُهُ: (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ) كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ بِمُهْمَلَةٍ وَقَافٍ، أَيِ: الْكَلِمَةُ الْمَسْمُوعَةُ الَّتِي تَقَعُ حَقًّا، وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: كَذَا فِي نُسَخِ بِلَادِنَا بِالْجِيمِ وَالنُّونِ، أَيِ الْكَلِمَةُ الْمَسْمُوعَةُ مِنَ الْجِنِّ أَوِ الَّتِي تَصِحُّ مِمَّا نَقَلَتْهُ الْجِنُّ. قُلْتُ: التَّقْدِيرُ الثَّانِي يُوَافِقُ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ أَنَّهُ وَقَعَ - يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ - بِالْحَاءِ وَالْقَافِ.
قَوْلُهُ: (يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَفِي رِوَايَةِ السَّرَخْسِيِّ: يَخْطَفُهَا مِنَ الْجِنِّيِّ أَيِ الْكَاهِنُ يَخْطَفُهَا مِنَ الْجِنِّيِّ أَوِ الْجِنِّيُّ الَّذِي يَلْقَى الْكَاهِنُ يَخْطَفُهَا مِنْ جِنِّيٍّ آخَرَ فَوْقَهُ، وَيَخْطَفُهَا بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءٍ مَفْتُوحَةٍ - وَقَدْ تُكْسَرُ - بَعْدَهَا فَاءٌ وَمَعْنَاهُ: الْأَخْذُ بِسُرْعَةٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: يَحْفَظُهَا، بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ بَعْدَهَا ظَاءٌ مُعْجَمَةٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (فَيَقَرُّهَا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يَصُبُّهَا، تَقُولُ: قَرَرْتُ عَلَى رَأْسِهِ دَلْوًا إِذَا صَبَبْتُهُ، فَكَأَنَّهُ صُبَّ فِي أُذُنِهِ ذَلِكَ الْكَلَامَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى أَلْقَاهَا فِي أُذُنِهِ بِصَوْتٍ، يُقَالُ: قَرَّ الطَّائِرُ إِذَا صَوَّتَ انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ: فَيُقَرْقِرُهَا، أَيْ: يُرَدِّدُهَا، يُقَالُ: قَرْقَرَتِ الدَّجَاجَةُ تُقَرْقِرُ قَرْقَرَةً إِذَا رَدَّدَتْ صَوْتَهَا، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيُقَالُ أَيْضًا: قَرَّتِ الدَّجَاجَةُ تُقِرُّ قَرًّا وَقَرِيرًا، وَإِذَا رَجَّعَتْ فِي صَوْتِهَا قِيلَ: قَرْقَرَتْ قَرْقَرَةً وَقَرْقَرِيرَةً، قَالَ: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْجِنِّيَّ إِذَا أَلْقَى الْكَلِمَةَ لِوَلِيِّهِ تَسَامَعَ بِهَا الشَّيَاطِينُ فَتَنَاقَلُوهَا، كَمَا إِذَا صَوَّتَتِ الدَّجَاجَةُ فَسَمِعَهَا الدَّجَاجُ فَجَاوَبَتْهَا. وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْأَشْبَهَ بِمَسَاقِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْجِنِّيَّ يُلْقِي الْكَلِمَةَ إِلَى وَلِيِّهِ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ مُتَرَاجِعٍ لَهُ زَمْزَمَةٌ وَيُرْجِعُهُ لَهُ، فَلِذَلِكَ يَقَعُ كَلَامُ الْكُهَّانِ غَالِبًا عَلَى هَذَا النَّمَطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْجَنَائِزِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute