قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ أَيْ: كَيْفَ تُعَمَّوْنَ عَنْ هَذَا وَتَصُدُّونَ عَنْهُ؟ قَالَ: وَنَرَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: سُحِرَتْ أَعْيُنُنَا عَنْهُ فَلَمْ نُبْصِرْهُ، وَأَخْرَجَ (١) فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ أَيْ: تُخْدَعُونَ أَوْ تُصْرَفُونَ عَنِ التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ. قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ مِنَ السِّحْرِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: السِّحْرُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ التَّخْلِيطِ وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَمَا يَقَعُ مِنَ الْمَسْحُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) هُوَ الرَّازِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: حَدَّثَنِي بِالْإِفْرَادِ، وَهِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِيهِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الْجِزْيَةِ، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ غَيْرَ هِشَامٍ أَيْضًا حَدَّثَ بِهِ عَنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ. وَجَاءَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَغَيْرِهِمَا.
قَوْلُهُ: (سَحَرَ النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ) بِزَايٍ قَبْلَ الرَّاءِ مُصَغَّر.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ لَهُ: لَبِيدٌ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ (ابْنُ الْأَعْصَمِ) بِوَزْنِ أَحْمَرَ بِمُهْمَلَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: سَحَرَ النَّبِيَّ ﷺ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الْآتِيَةِ قَرِيبًا: رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفِ الْيَهُودِ وَكَانَ مُنَافِقًا وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ نَظَرَ إِلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ مُنَافِقًا نَظَرَ إِلَى ظَاهِرِ أَمْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ نِفَاقًا وَهُوَ وَاضِحٌ، وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قِيلَ لَهُ يَهُودِيٌّ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ لَا أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ.
وَبَنُو زُرَيْقٍ بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مَشْهُورٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الْيَهُودِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حِلْفٌ وَإِخَاءٌ وَوُدٌّ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلَ الْأَنْصَارُ فِيهِ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ الْوَاقِدِيُّ السَّنَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا السِّحْرُ: أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ لَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ مُرْسَلٌ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ - رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْحَجَّةِ وَدَخَلَ الْمُحَرَّمُ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ جَاءَتْ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ إِلَى لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ - وَكَانَ حَلِيفًا فِي بَنِي زُرَيْقٍ وَكَانَ سَاحِرًا - فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا الْأَعْصَمِ، أَنْتَ أَسْحَرُنَا، وَقَدْ سَحَرْنَا مُحَمَّدًا فَلَمْ نَصْنَعْ شَيْئًا، وَنَحْنُ نَجْعَلُ لَكَ جُعْلًا عَلَى أَنْ تَسْحَرَهُ لَنَا سِحْرًا يَنْكَؤُهُ. فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فَأَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَفِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ، عَنْ هِشَامٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ السِّتَّةُ أَشْهُرٍ مِنَ ابْتِدَاءِ تَغَيُّرِ مِزَاجِهِ وَالْأَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنَ اسْتِحْكَامِهِ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي مَكَثَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهَا فِي السِّحْرِ حَتَّى ظَفِرْتُ بِهِ فِي جَامِعِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ لَبِثَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، كَذَا قَالَ، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ مَوْصُولًا بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ) قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَنْكَرَ الْمُبْتَدِعَةُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطُّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا، قَالُوا: وَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا يَعْدَمُ الثِّقَةَ بِمَا شَرَعوه مِنَ الشَّرَائِعِ إِذْ يُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيلَ وَلَيْسَ هُوَ ثَمَّ، وَأَنَّهُ يُوحِي إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يُبَلِّغُهُ
(١) بياض بالأصل.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute