أَيْ قَدْ يَئُولُ هَذَا الْفِعْلُ بِشُؤْمِهِ إِلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُطَابِقُ التَّرْجَمَةَ، وَلَوْ كَانَ مُرَادًا لَمْ يَحْصُلِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ السِّبَابِ وَالْقِتَالِ، فَإِنَّ مُسْتَحِلَّ لَعْنِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ يَكْفُرُ أَيْضًا. ثُمَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ ﷺ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَفِيهِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ الْآيَةَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْكُفْرُ تَغْلِيظًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: لَعْنُ الْمُسْلِمِ كَقَتْلِهِ فَلَا يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثَ ; لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ فَوْقَ الْمُشَبَّهِ، وَالْقَدْرُ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ بُلُوغُ الْغَايَةِ فِي التَّأْثِيرِ: هَذَا فِي الْعَرْضِ، وَهَذَا فِي النَّفْسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَرَدَ لِهَذَا الْمَتْنِ سَبَبٌ ذَكَرْتُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْفِتَنِ فِي أَوَاخِرِ الصَّحِيحِ.
٤٩ - أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عن أَنَسُ قال: أخبرنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ.
[الحديث ٤٩ - طرفاه في: ٦٠٤٩، ٢٠٢٣]
قَوْلُهُ: (عَنْ حُمَيْدٍ) هُوَ الطَّوِيلُ (عَنْ أَنَسٍ)، وَلِلْأَصِيلِيِّ: حَدَّثَنَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَأَمِنَّا تَدْلِيسَ حُمَيْدٍ، وهو مِنْ رِوَايَةِ صَحَابِيٍّ عَنْ صَحَابِيٍّ، أَنَسٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ.
قَوْلُهُ: (خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ) أَيْ: بِتَعْيِينِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
قَوْلُهُ: (فَتَلَاحَى) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّلَاحِي بِكَسْرِهَا، وهو التَّنَازُعُ وَالْمُخَاصَمَةُ، وَالرَّجُلَانِ أَفَادَ ابْنُ دِحْيَةَ أَنَّهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ - بِحَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَدَالٍ سَاكِنَةٍ مُهْمَلَتَيْنِ، ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ أَيْضًا - وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. وَقَوْلُهُ: فَرُفِعَتْ أَيْ فَرُفِعَ تَعْيِينُهَا عَنْ ذِكْرِي، هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ هُنَا. وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا أَوْضَحَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ: يَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْمُحِقُّ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَنَسِيتُهَا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخَاصَمَةَ مَذْمُومَةٌ، وَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي الْعُقُوبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ أَيِ: الْحِرْمَانِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يَحْضُرُهُ الشَّيْطَانُ تُرْفَعُ مِنْهُ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ الْمُخَاصَمَةُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مَذْمُومَةً؟ قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ لِوُقُوعِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وهو مَحَلُّ الذِّكْرِ لَا اللَّغْوِ، ثُمَّ فِي الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ أَيْضًا بِالذِّكْرِ لَا اللَّغْوِ، وهو شَهْرُ رَمَضَانَ، فَالذَّمُّ لِمَا عَرَضَ فِيهَا لَا لِذَاتِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِرَفْعِ الصَّوْتِ وَرَفْعُهُ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى - ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ وَمِنْ هُنَا يَتَّضِحُ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ وَمُطَابَقَتُهَا لَهُ، وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ.
فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: ﴿وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ بِالْعَمَلِ الَّذِي لَا قَصْدَ فِيهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ بِالْإِحْبَاطِ لِاعْتِقَادِكُمْ صِغَرَ الذَّنْبِ، فَقَدْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ الذَّنْبَ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَيْ: عِنْدَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ، أَيْ: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute