فَهُوَ سِتْرٌ.
قَوْلُهُ: (فِيهِ تَمَاثِيلُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِيهِ الْخَيْلُ ذَوَاتُ الْأَجْنِحَةِ. وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الصُّوَرِ إِذَا كَانَتْ لَا ظِلَّ لَهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا يُوطَأُ وَيُدَاسُ أَوْ يُمْتَهَنُ بِالِاسْتِعْمَالِ كَالْمَخَادِّ وَالْوَسَائِدِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لَا ظِلَّ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِطٍ أَوْ مَلْبُوسًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ مُمْتَهَنًا فَهُوَ حَرَامٌ. قُلْتُ: وَفِيمَا نَقَلَهُ مُؤَاخَذَاتٌ: مِنْهَا أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ نَقَلَ أَنَّ الصُّورَةَ إِذَا كَانَ لَهَا ظِلٌّ حَرُمَ بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يُمْتَهَنُ أَو لَا، وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مَحَلُّهُ غَيْرِ لُعَبِ الْبَنَاتِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي بَابِ مَنْ صَوَّرَ صُورَةً وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فِي الصُّوَرِ الَّتِي لَا تُتَّخَذُ لِلْإِبْقَاءِ كَالْفَخَّارِ قَوْلَيْنِ أَظْهَرُهُمَا الْمَنْعُ. قُلْتُ: وَهَلْ يَلْتَحِقُ مَا يُصْنَعُ مِنَ الْحَلْوَى بِالْفَخَّارِ، أَوْ بِلُعَبِ الْبَنَاتِ؟ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ. وَصَحَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي لَا ظِلَّ لَهَا إِذَا بَقِيَتْ عَلَى هَيْئَتِهَا حَرُمَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يُمْتَهَنُ أَمْ لَا، وَإِنْ قَطَعَ رَأْسَهَا أَوْ فُرِّقَتْ هَيْئَتُهَا جَازَ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَنْقُولٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ، وَقَدْ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ النُّمْرُقَةِ - يَعْنِي الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ - وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَ وَجْهًا أَنَّ الَّذِي يُرَخَّصُ فِيهِ مِمَّا لَا ظِلَّ لَهُ مَا كَانَ عَلَى سِتْرٍ أَوْ وِسَادَةٍ، وَأَمَّا مَا عَلَى الْجِدَارِ وَالسَّقْفِ فَيُمْنَعُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَصِيرُ مُرْتَفِعًا فَيَخْرُجُ عَنْ هَيْئَةِ الِامْتِهَانِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يُمْتَهَنَ، وَتُسَاعِدُهُ عِبَارَةُ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ صُورَةٌ ذَاتُ رُوحٍ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الصُّورَةَ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهَا ارْتَفَعَ الْمَانِعُ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ لَا فَرْقَ. وَمِنْهَا أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ الصُّورَةِ فِي الثَّوْبِ وَلَوْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى مَا فِي خَبَرِ أَبِي طَلْحَةَ، لَكِنْ إِنْ سُتِرَ بِهِ الْجِدَارُ مُنِعَ عِنْدَهُمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْمَمْنُوعَ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ، وَأَمَّا مَا لَا ظِلَّ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِاتِّخَاذِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ السِّتْرَ الَّذِي أَنْكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ كَانَتِ الصُّورَةُ فِيهِ بِلَا ظِلٍّ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِنَزْعِهِ.
قُلْتُ: الْمَذْهَبُ الْمَذْكُورُ نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَفْظُهُ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْقَاسِمِ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فِي بَيْتِهِ، فَرَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ حَجَلَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ الْقُنْدُسِ وَالْعَنْقَاءِ فَفِي إِطْلَاقِ كَوْنِهِ مَذْهَبًا بَاطِلًا نَظَرٌ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِي ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: إِلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا أَوْ مَفْرُوشًا، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ إِنْكَارَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى عَائِشَةَ تَعْلِيقَ السِّتْرِ الْمَذْكُورِ مُرَكَّبًا مِنْ كَوْنِهِ مُصَوَّرًا وَمِنْ كَوْنِهِ سَاتِرًا لِلْجِدَارِ، يُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ. دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ لَكِنْ قَالَ: فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ. قَالَ: فَقَطَعْنَا مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ الْحَدِيثَ ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ سَتْرَ الْجِدَارِ بِالثَّوْبِ الْمُصَوَّرِ، فَلَا يُسَاوِيهِ الثَّوْبُ الْمُمْتَهَنُ وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ صُورَةٌ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ الَّذِي لَا يُسْتَرُ بِهِ الْجِدَارُ. وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ النُّمْرُقَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ فَهِمَ الرُّخْصَةَ فِي مِثْلِ الْحَجَلَةِ مَا اسْتَجَازَ اسْتِعْمَالَهَا ; لَكِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ، وَأَنَّ الَّذِي رُخِّصَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُمْتَهَنُ، لَا مَا كَانَ مَنْصُوبًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّصَاوِيرِ فِي الْبُسُطِ وَالْوَسَائِدِ الَّتِي تُوطَأُ ذُلٌّ لَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا نُصِبَ مِنَ التَّمَاثِيلِ نَصْبًا، وَلَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِمَا وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَرَّقَهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بَأْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute