للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

يُنْتَفَعُ بِجُزْئِهِ كَالْجَوْهَرَةِ النَّفِيسَةِ.

وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ فِي الْحَلَبِيَّاتِ: الضَّابِطُ فِي إِضَاعَةِ الْمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ لِغَرَضٍ دِينِيٍّ وَلَا دُنْيَوِيٍّ، فَإِنِ انْتَفَيَا حَرُمَ قَطْعًا، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا وُجُودًا لَهُ بَالٌ وَكَانَ الْإِنْفَاقُ لَائِقًا بِالْحَالِ وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ جَازَ قَطْعًا، وَبَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ وَسَائِطُ كَثِيرَةٌ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ ضَابِطٍ. فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَرَى فِيمَا تَيَسَّرَ مِنْهَا رَأْيَهُ، وَأَمَّا مَا لَا يَتَيَسَّرُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ ; فَالْإِنْفَاقُ فِي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ كُلُّهُ، وَلَا نَظَرَ إِلَى مَا يَحْصُلُ فِي مَطْلُوبِهِ مِنْ قَضَاءِ شَهْوَةٍ وَلَذَّةٍ حَسَنَةٍ. وَأَمَّا إِنْفَاقُهُ فِي الْمَلَاذِّ الْمُبَاحَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ الِاخْتِلَافِ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ أَنَّ الزَّائِدَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ إِسْرَافٌ. ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ بَذَلَ مَالًا كَثِيرًا فِي غَرَضٍ يَسِيرٍ تَافِهٍ عَدَّهُ الْعُقَلَاءُ مُضَيِّعًا، بِخِلَافِ عَكْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَهُوَ تَتَبُّعُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالْخِلَالِ الْجَمِيلَةِ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ شَاهِينٍ الْوَاسِطِيُّ، وَخَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، وَالْجُرَيْرِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ هُوَ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ، وَهُوَ مِمَّنِ اخْتَلَطَ وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ سَمَاعَ خَالِدٍ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ وَلَا بَعْدَهُ، لَكِنْ تَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ وَيَأْتِي فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ كِلَاهُمَا عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، وَإِسْمَاعِيلُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنَ الْجُرَيْرِيِّ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِ، وَبَيَّنَ فِي الشَّهَادَاتِ تَصْرِيحَ الْجُرَيْرِيِّ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ عَنْهُ بِتَحْدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ لَهُ بِهِ.

قَوْلُهُ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ) فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَلَا أُخْبِركُمْ.

قَوْلُهُ: (بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا) أَيْ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَكْرِيرِ الشَّيْءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَأْكِيدًا لِيُنَبِّهَ السَّامِعَ عَلَى إِحْضَارِ قَلْبِهِ وَفَهْمِهِ لِلْخَبَرِ الَّذِي يَذْكُرُهُ وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ثَلَاثًا عَدَدُ الْكَبَائِرِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَنَّ أَوَّلَ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ثَلَاثًا وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ، وَمِنْهَا صَغَائِرَ، وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الِاسْفَرَايِنِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةٌ بَلْ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَبِيرَةٌ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ كُلَّ مُخَالَفَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِهِ كَبِيرَةٌ اهـ.

وَنَسَبَهُ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى الْأَشْعَرِيَّةِ فَقَالَ: انْقِسَامُ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَخَالَفَهُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: الْمَعَاصِي كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ الْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِإِضَافَتِهَا إِلَى الزِّنَا وَكُلُّهَا كَبَائِرُ، قَالُوا: وَلَا ذَنْبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ وَاجِبًا بِاجْتِنَابِ ذَنْبٍ آخَرَ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ، وَمُرْتَكِبُهُ فِي الْمَشِيئَةِ غَيْرَ الْكُفْرِ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وَأَجَابُوا عَنِ الْآيَةِ الَّتِي احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ أَنَّ الْمُرَادَ الشِّرْكُ. وَقَدْ قَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ قَرَأَ كَبَائِرَ فَالْمُرَادُ بِهَا كَبِيرٌ، وَكَبِيرُ الْإِثْمِ هُوَ الشِّرْكُ، وَقَدْ يَأْتِي لَفْظُ الْجَمْعِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ وَلَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ غَيْرُ نُوحٍ، قَالُوا: وَجَوَازُ الْعِقَابِ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَجَوَازِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ اهـ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ إِنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ لَا يَلِيقُ بِالْفَقِيهِ.

قُلْتُ: قَدْ حَقَّقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَنْقُولَ عَنِ الْأَشَاعِرَةِ وَاخْتَارَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، فَقَالَ فِي الْإِرْشَادِ: الْمَرْضِيُّ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ يُعْصَى اللَّهُ بِهِ كَبِيرَةٌ، فَرُبَّ شَيْءٍ يُعَدُّ صَغِيرَةً بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَقْرَانِ وَلَوْ كَانَ فِي حَقِّ الْمَلِكِ لَكَانَ كَبِيرَةً، وَالرَّبُّ أَعْظَمُ مَنْ عُصِيَ، فَكُلُّ ذَنْبٍ