الِاعْتِرَاضِ، وَالْأَوْلَى ضَبْطُهَا بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا بِدِينِهِ إِشْعَارًا دُونَ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. قُلْتُ: وَهُوَ ضَابِطٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الرَّاجِحُ أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ نُصَّ عَلَى كِبَرِهِ أَوْ عِظَمِهِ أَوْ تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ أَوْ عُلِّقَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ شُدِّدَ النَّكِيرُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَكَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ يُوَافِقُ مَا نُقِلَ أَوَّلًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ إِيجَابُ الْحَدِّ، وَعَلَى هَذَا يَكْثُرُ عَدَدُ الْكَبَائِرِ.
فَأَمَّا مَا وَرَدَ النَّصُّ الصَّرِيحُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً فَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ فِي كِتَابِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَنَذْكُرُ هُنَاكَ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ زِيَادَةً عَلَى السَّبْعِ الْمَذْكُورَاتِ مِمَّا نَصَّ عَلَى كَوْنِهَا كَبِيرَةً أَوْ مُوبِقَةً. وَقَدْ ذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الذُّنُوبَ الَّتِي لَمْ يُنَصَّ عَلَى كَوْنِهَا كَبِيرَةً مَعَ كَوْنِهَا كَبِيرَةً لَا ضَابِطَ لَهَا، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَا لَمْ يَنُصَّ الشَّارِعُ عَلَى كَوْنِهِ كَبِيرَةً فَالْحِكْمَةُ فِي إِخْفَائِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ الْعَبْدُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً، كَإِخْفَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَسَاعَةِ الْجُمُعَةِ وَالِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) قَوْلُهُ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْحَصْرِ بَلْ مِنْ فِيهِ مُقَدَّرَةٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ أَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، مِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قَتْلِ النَّفْسِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيِ الذَّنْبِ أَعْظَمُ فَذَكَرَ فِيهِ الزِّنَا بِحَلِيلَةِ الْجَارِ وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيِّ مَرْفُوعًا قَالَ: مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ - فَذَكَرَ مِنْهَا - الْيَمِينَ الْغَمُوسَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَحَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ - فَذَكَرَ مِنْهَا - مَنْعَ فَضْلِ الْمَاءِ وَمَنْعَ الْفَحْلِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَيَقْرَبُ مِنْهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَلَكِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعُقُوقِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ انْقِسَامُ الذُّنُوبِ إِلَى كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ فِي الذُّنُوبِ صَغَائِرَ، لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ فَالْكَبَائِرُ
وَالذُّنُوبُ عِنْدَهُ مُتَوَارِدَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الذُّنُوبِ؟ قَالَ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ اسْتِوَاؤُهَا فَإِنَّ الشِّرْكَ بِاللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الْكُفْرِ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَتِهِ فِي الْوُجُودِ، لَا سِيَّمَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، فَذَكَرَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْكُفْرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خُصُوصُهُ إِلَّا أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ وَهُوَ التَّعْطِيلُ فَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ عَلَى هَذَا.
قَوْلُهُ: (وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا، وَذَكَرَ قَبْلَهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْآتِي بَعْدَهُ قَتْلَ النَّفْسِ وَالْمُرَادُ قَتْلُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ) فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ فِي الشَّهَادَاتِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا وَأَمَّا فِي الِاسْتِئْذَانِ فَكَالْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَا يَسْكُتُ) هَكَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ أَيْ تَمَنَّيْنَاهُ يَسْكُتُ إِشْفَاقًا عَلَيْهِ لِمَا رَأَوْا مِنَ انْزِعَاجِهِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: اهْتِمَامُهُ ﷺ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهَا أَسْهَلُ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ، وَالتَّهَاوُنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute