شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُجْزَةِ هُنَا قَائِمَةُ الْعَرْشِ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ إِنَّ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقِتَالِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حِبَّانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِلَفْظٍ هَذَا مَكَانُ بَدَلَ مَقَامُ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمُرَادِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ.
قَوْلُهُ: (أَصِلُ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعُ مَنْ قَطَعَكِ) فِي ثَانِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْوَصْلُ مِنَ اللَّهِ كِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ إِحْسَانِهِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ، وَلَمَّا كَانَ أَعْظَمُ مَا يُعْطِيهِ الْمَحْبُوبُ لِمُحِبِّهِ الْوِصَالَ وَهُوَ الْقُرْبُ مِنْهُ وَإِسْعَافُهُ بِمَا يُرِيدُ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى مَا يُرْضِيهِ، وَكَانَتْ حَقِيقَةُ ذَلِكَ مُسْتَحِيلَةً فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى -، عُرِفَ أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ إِحْسَانِهِ لِعَبْدِهِ. قَالَ: وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْقَطْعِ، هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حِرْمَانِ الْإِحْسَانِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَسَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّهُ يَعْنِي الْقَوْلَ الْمَنْسُوبَ إِلَى الرَّحِمِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَوِ الْحَقِيقَةِ أَوْ إِنَّهُ عَلَى جِهَةِ التَّقْدِيرِ وَالتَّمْثِيلِ كَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَوْ كَانَتِ الرَّحِمُ مِمَّنْ يَعْقِلُ وَيَتَكَلَّمُ لَقَالَتْ كَذَا، وَمِثْلُهُ ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا﴾ الْآيَةَ، وَفِي آخِرِهَا ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ فَمَقْصُودُ هَذَا الْكَلَامِ الْإِخْبَارُ بِتَأَكُّدِ أَمْرِ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ فَأَدْخَلَهُ فِي حِمَايَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَارُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْذُولٍ، وَقَدْ قَالَ: مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، وَإِنَّ مَنْ يَطْلُبْهُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذِمَّتِهِ يُدْرِكْهُ ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ) لِسُلَيْمَانَ فِي هَذَا الْمَعْنَى ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: أَحَدُهَا: هَذَا، وَالْآخَرُ: الْحَدِيثُ الَّذِي قَبْلَهُ - وَقَدْ سَبَقَ مِنْ طَرِيقِهِ فِي تَفْسِيرِ الْقِتَالِ وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ - والثالث حديثه عن معاوية بن أبي مزرد أيضا عن يزيد بن رومان وهو ثالث أحاديث الباب.
قَوْلُهُ: (الرَّحِمُ شِجْنَةٌ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بَعْدَهَا نُونٌ، وَجَاءَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ رِوَايَةً وَلُغَةً. وَأَصْلُ الشِّجْنَةِ عُرُوقُ الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكَةُ، وَالشَّجَنُ بِالتَّحْرِيكِ وَاحِدُ الشُّجُونِ وَهِيَ طُرُقُ الْأَوْدِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الْحَدِيثُ ذُو شُجُونٍ أَيْ يَدْخُلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الرَّحْمَنِ أَيْ أُخِذَ اسْمُهَا مِنْ هَذَا الِاسْمِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي السُّنَنِ مَرْفُوعًا أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ مُشْتَبِكَةٌ بِهَا ; فَالْقَاطِعُ لَهَا مُنْقَطِعٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّحِمَ اشْتُقَّ اسْمُهَا مِنَ اسْمِ الرَّحْمَنِ فَلَهَا بِهِ عَلَقَةٌ، وَلَيْسَ مضاه أَنَّهَا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الرَّحِمَ الَّتِي تُوصَلُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَالْعَامَّةُ رَحِمُ الدِّينِ وَتَجِبُ مُوَاصَلَتُهَا بِالتَّوَادُدِ وَالتَّنَاصُحِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ. وَأَمَّا الرَّحِمُ الْخَاصَّةُ فَتَزِيدُ النَّفَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ وَالتَّغَافُلِ عَنْ زَلَّاتِهِمْ. وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ اسْتِحْقَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: تَكُونُ صِلَةُ الرَّحِمِ بِالْمَالِ، وَبِالْعَوْنِ عَلَى الْحَاجَةِ، وَبِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَبِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَبِالدُّعَاءِ.
وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ إِيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْخَيْرِ، وَدَفْعُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الشَّرِّ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَمِرُّ إِذَا كَانَ أَهْلُ الرَّحِمِ أَهْلَ اسْتِقَامَةٍ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ فُجَّارًا فَمُقَاطَعَتُهُمْ فِي اللَّهِ هِيَ صِلَتُهُمْ، بِشَرْطِ بَذْلِ الْجَهْدِ فِي وَعْظِهِمْ، ثُمَّ إِعْلَامِهِمْ إِذَا أَصَرُّوا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَلَا يَسْقُطُ مَعَ ذَلِكَ صِلَتُهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِظَهْرِ الْغَيْبِ أَنْ يَعُودُوا إِلَى الطَّرِيقِ الْمُثْلَى.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ اللَّهُ) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ لَهَا وَهَذِهِ الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَحْذُوفٍ، وَأَحْسَنُ مَا يُقَدَّرُ لَهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ اللَّهُ إِلَخْ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute