رَجَعْتُمْ إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمُ؛ اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ التِّينِ عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ قَبْلَ الْفَتْحِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ بَلْ عَلَى الْبَعْضِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ وُفُودَ مَالِكٍ وَمَنْ مَعَهُ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ؟ وَقَوْلُهُ: وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي؛ حَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّهُ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى إِمَامَةِ الصِّبْيَانِ، وَزَيَّفَهُ فَأَجَادَ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ، وَفِيهِ قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي سَقَى الْكَلْبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الشُّرْبِ قُبَيْلَ كِتَابِ الِاسْتِقْرَاضِ، وَالرُّطُوبَةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْحَيَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَبِدَ إِذَا ظَمِئَتْ تَرَطَّبَتْ بِدَلِيلِ أَنَّهَا إِذَا أُلْقِيَتْ فِي النَّارِ ظَهَرَ مِنْهَا الرَّشْحُ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّارَ تُخْرِجُ مِنْهَا رُطُوبَتَهَا إِلَى خَارِجٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ أَنَّ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَقَعَ نَحْوُهَا لِامْرَأَةٍ، وَحُمِلَ عَلَى التَّعَدُّدِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْوُضُوءِ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ الْيَمَانِيُّ، وَقِيلَ: الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ الْأَعْرَابِيُّ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِمُحَمَّدٍ وَلَا تَغْفِرْ لِأَحَدٍ مَعَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَقَدِ احْتَظَرْتَ وَاسِعًا، ثُمَّ تَنَحَّى الْأَعْرَابِيُّ فَبَالَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ. الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا، يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ) حَجَّرْتَ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ ثَقِيلَةٍ ثُمَّ رَاءٍ أَيْ ضَيَّقْتَ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَرَحْمَتُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ حَجَّرْتَ بِالرَّاءِ لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِالزَّايِ، قَالَ وَهُمَا بِمَعْنًى، وَالْقَائِلُ يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ بَعْضُ رُوَاتِهِ وَكَأَنَّهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَنْكَرَ ﷺ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ لِكَوْنِهِ بَخِلَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى مَنْ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ؛ حَيْثُ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: احْتَظَرْتَ؛ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَظَاءٍ مُشَالَةٍ بِمَعْنَى امْتَنَعْتِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِظَارِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مَا وَرَاءَهُ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ قَوْلُهُ: (زَكَرِيَّا) هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَعَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ.
قَوْلُهُ: (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْمُرَادُ مَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُ كَامِلًا.
قَوْلُهُ: (وَتَوَادُّهُمْ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ، وَالْأَصْلُ التَّوَادُدُ فَأُدْغِمَ، وَالتَّوَادُدُ تَفَاعُلٌ مِنَ الْمَوَدَّةِ، وَالْوُدُّ وَالْوِدَادُ بِمَعْنًى، وَهُوَ تَقَرُّبُ شَخْصٍ مِنْ آخَرَ بِمَا يُحِبُّ.
قَوْلُهُ: (وَتَعَاطُفُهُمْ) قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّرَاحُمَ وَالتَّوَادُدَ وَالتَّعَاطُفَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى لَكِنْ بَيْنَهَا فَرْقٌ لَطِيفٌ، فَأَمَّا التَّرَاحُمُ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَرْحَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأُخُوَّةِ الْإِيمَانِ لَا بِسَبَبِ شَيْءٍ آخَرَ، وَأَمَّا التَّوَادُدُ فَالْمُرَادُ بِهِ التَّوَاصُلُ الْجَالِبُ للْمَحَبَّةَ كَالتَّزَاوُرِ وَالتَّهَادِي، وَأَمَّا التَّعَاطُفُ فَالْمُرَادُ بِهِ إِعَانَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا يَعْطِفُ الثَّوْبَ عَلَيْهِ لِيُقَوِّيَهُ اهـ مُلَخَّصًا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَخَيْثَمَةَ فَرْقَهُمَا عَنِ النُّعْمَانِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِذَا اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ. وَفِي رِوَايَةِ خَيْثَمَةَ: اشْتَكَى، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ كُلُّهُ.
قَوْلُهُ: (كَمَثَلِ الْجَسَدِ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ فِيهِ التَّوَافُقِ فِي التَّعَبِ وَالرَّاحَةِ.
قَوْلُهُ: (تَدَاعَى) أَيْ دَعَا بَعْضُهُ بَعْضًا إِلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَلَمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَدَاعَتِ الْحِيطَانُ أَيْ تَسَاقَطَتْ أَوْ كَادَتْ.
قَوْلُهُ: (بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) أَمَّا السَّهَرُ فَلِأَنَّ الْأَلَمَ يَمْنَعُ النَّوْمَ، وَأَمَّا الْحُمَّى فَلِأَنَّ فَقْدَ النَّوْمِ يُثِيرُهَا.
وَقَدْ عَرَّفَ أَهْلَ الْحِذْقِ الْحُمَّى بِأَنَّهَا حَرَارَةٌ غَرِيزِيَّةٌ تَشْتَعِلُ فِي الْقَلْبِ فَتَشِبُّ مِنْهُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ فَتَشْتَعِلُ اشْتِعَالًا يَضُرُّ بِالْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَتَشْبِيهُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَسَدِ الْوَاحِدِ تَمْثِيلٌ صَحِيحٌ، وَفِيهِ تَقْرِيبٌ لِلْفَهْمِ وَإِظْهَارٌ لِلْمَعَانِي فِي الصُّوَرِ الْمَرْئِيَّةِ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَضُّ عَلَى تَعَاوُنِهِمْ وَمُلَاطَفَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: شَبَّهُ النَّبِيُّ ﷺ الْإِيمَانَ بِالْجَسَدِ