مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَلِلْبَزَّارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ تَبَعًا لِلطَّبَرِيِّ خِلَافًا: هَلْ حُسْنُ الْخُلُقِ غَرِيزَةٌ، أَوْ مُكْتَسَبٌ؟ وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ غَرِيزَةٌ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ أَرْزَاقَكُمُ. الْحَدِيثَ، وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَق الَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: الْخُلُقُ جِبِلَّةٌ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتُونَ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا إِنْ كَانَ مَحْمُودًا، وَإِلَّا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْمُجَاهَدَةِ فِيهِ حَتَّى يَصِيرَ مَحْمُودًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَيَرْتَاضُ صَاحِبُهُ حَتَّى يَقْوَى. قُلْتُ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْأَشَجِّ الْعَصْرِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدِيمًا كَانَا فِيَّ أَوْ حَدِيثًا؟ قَالَ: قَدِيمًا.
قَالَ: الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا، فَتَرْدِيدُهُ السُّؤَالَ وَتَقْرِيرُهُ عَلَيْهِ يُشْعِرُ بِأَنَّ فِي الْخُلُقِ مَا هُوَ جِبِلِّيٌّ، وَمَا هُوَ مُكْتَسَبٌ.
الحديث السادس: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْبُرْدَةِ الَّتِي سَأَلَ الصَّحَابِيُّ لِتَكُونَ كَفَنَهُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلَّذِي طَلَبَهَا: سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الْجَنَائِزِ، وَفِي قَوْلِهِمْ: سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا اسْتِعْمَالُ ثَانٍ والضَّمِيرَيْنِ مُنْفَصِلًا وَهُوَ الْمُتَعَيَّنُ هُنَا فِرَارًا مِنَ الِاسْتِثْقَالِ، إِذْ لَوْ قَالَهُ مُتَّصِلًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ هَكَذَا سَأَلْتُمُوهَا، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ الْمُنْفَصِلُ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُتَّصِلِ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ أَخْصَرُ وَأَبْيَنُ، لَكِنْ إِذَا اخْتَلَفَ الضَّمِيرَانِ وَتَقَارَبَا فَالْأَحْسَنُ الِانْفِصَالُ نَحْوَ هَذَا، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الرُّتْبَةِ جَازَ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ، مِثْلَ: أَعْطَيْتُكَهُ، وَأَعْطَيْتُكَ إِيَّاهُ.
الحديث السابع: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِلْآخَرِ وَجْهٌ. وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْبَابِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْبُخْلِ فَإِنَّهُ بُخْلٌ مَعَ حِرْصٍ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ يُلْقَى، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ بِسُكُونِ اللَّامِ، أَيْ يُوضَعُ فِي الْقُلُوبِ فَيَكْثُرُ، وَهُوَ عَلَى هَذَا بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ أَيْ يُعْطِي الْقُلُوبُ الشُّحَّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا بِالنَّصْبِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: لَمْ تَضْبِطِ الرُّوَاةُ هَذَا الْحَرْفَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّى بِالتَّشْدِيدِ أَيْ يَتَلَقَّى وَيَتَوَاصَى بِهِ وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ، مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ؛ أَيْ مَا يَعْلَمُهَا وَيُنَبَّهُ عَلَيْهَا، قَالَ: وَلَوْ قِيلَ: يُلْقَى مُخَفَّفَةً لَكَانَ بَعِيدًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُلْقِيَ لَتُرِكَ وَكَانَ مَدْحًا وَالْحَدِيثُ مُسَاقٌ لِلذَّمِّ، وَلَوْ كَانَ بِالْفَاءِ بِمَعْنَى يُوجَدُ لَمْ يَسْتَقِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا اهـ. وَقَدْ ذَكَرْتُ تَوْجِيهَ الْقَافِ.
الحديث الثامن: حَدِيثُ أَنَسٍ، قَوْلُهُ: (خَدَمْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ) تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَمِثْلَهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خِدْمَتِهِ لَهُ كَانَ بَعْدَ قُدُومِهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَبَعْدَ تَزْوِيجِ أُمِّهِ أُمِّ سُلَيْمٍ بِأَبِي طَلْحَةَ، فَقَدْ مَضَى فِي الْوَصَايَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ، وَلَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدَيَّ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَأَشَارَ بِالسَّفَرِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَغَازِي وَغَيْرِهَا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَلَبَ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ مَنْ يَخْدُمُهُ فَأَحْضَرَ لَهُ أَنَسًا؛ فَأُشْكِلَ هَذَا عَلَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute