مَدْحَ مَنْ يَسْتَتِرُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ سِتْرَ اللَّهِ مُسْتَلْزِمٌ لِسِتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ، فَمَنْ قَصَدَ إِظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُجَاهَرَةَ بِهَا أَغْضَبَ رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتُرْهُ، وَمَنْ قَصَدَ التَّسَتُّرَ بِهَا حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِسَتْرِهِ إِيَّاهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ [يُشِيرُ] بِذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى تَقْوِيَةِ مَذْهَبِهِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ.
قَوْلُهُ: (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ) فِي رِوَايَةِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ، وَصَفْوَانُ مَازِنِيٌّ بَصْرِيٌّ وَأَبُوهُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ثُمَّ الزَّاي مَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَآخَرَ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ عَنْهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ الْمَاضِيَةِ فِي الْمَظَالِمِ عَنْ صَفْوَانَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ آخُذُ بِيَدِهِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي تَفْسِيرِ هُودٍ: بَيْنَمَا ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: حَدِّثْنِي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: (كَيْفَ سَمِعْتَ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ ارَّحْمَنِ؛ وَهِيَ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟) هِيَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْمَرْءُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَلَا يُسْمِعُ غَيْرَهُ، أَوْ يُسْمِعُ غَيْرَهُ سِرًّا دُونَ مَنْ يَلِيهِ، قَالَ الرَّاغِبُ: نَاجَيْتَهُ إِذَا سَارَرْتَهُ، وَأَصْلُهُ أَنْ تَخْلُوَ فِي نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَقِيلَ أَصْلُهُ مِنَ النَّجَاةِ، وَهِيَ أَنْ تَنْجُوَ بِسِرِّكَ مِنْ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَالنَّجْوَى أَصْلُهُ الْمَصْدَرُ، وَقَدْ يُوصَفُ بِهَا فَيُقَالُ هُوَ نَجْوَى وَهُمْ نَجْوَى، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمُنَاجَاةُ الَّتِي تَقَعُ مِنَ الرَّبِّ ﷾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ النَّجْوَى لِمُقَابَلَةِ مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ: (يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ؛ أَيْ يَقْرَبُ مِنْهُ قُرْبَ كَرَامَةٍ وَعُلُوِّ مَنْزِلَةٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالنُّونِ بَعْدَهَا فَاءٌ أَيْ جَانِبَهُ، وَالْكَنَفُ أَيْضًا السَّتْرُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَالْأَوَّلُ مَجَازٌ فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ فِي كَنَفِ فُلَانٍ أَيْ فِي حِمَايَتِهِ وَكِلَاءَتِهِ. وَذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّ بَعْضَهُمْ صَحَّفَهُ تَصْحِيفًا شَنِيعًا؛ فَقَالَ بِالْمُثَنَّاةِ بَدَلَ النُّونِ، وَيُؤَيِّدُ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِلَفْظٍ يَجْعَلُهُ فِي حِجَابِهِ. زَادَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَسِتْرِهِ.
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ: عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ؛ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ زَادَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ: فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَيَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ صَحِيفَتَكَ فَيَقْرَأُ، وَيُقَرِّرُهُ بِذَنْبٍ ذَنْبٍ، وَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ أَتَعْرِفُ؟
قَوْلُهُ: (فَيَقُولُ نَعَمْ) زَادَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ أَيْ رَبِّ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ فَيَقُولُ: أَعْرِفُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَيَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً؛ فَيَقُولُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، إِنَّكَ فِي سِتْرِي، لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذُنُوبِكَ غَيْرِي. زَادَ هَمَّامٌ، وَسَعِيدٌ، وَهِشَامٌ فِي رِوَايَتِهِمْ: فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ فَيُطْوَى وَهُوَ خَطَأٌ. وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ: وَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُنَافِقُ، وَلِبَعْضِهِمُ: الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ: وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هُودٍ أَنَّ الْأَشْهَادَ جَمْعُ شَاهِدٍ مِثْلُ أَصْحَابٍ وَصَاحِبٍ، وَهُوَ أَيْضًا جَمْعُ شَهِيدٍ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْحَدِيثِ تَفَضُّلُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِسِتْرِهِ لِذُنُوبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ أَنْفَذَ الْوَعِيدَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّنْ يَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَسِتْرَهُ أَحَدًا إِلَّا الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ؛ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ