لَكِنَّهُ حَلُمَ عَنِ الْقَائِلِ فَصَبَرَ لِمَا عَلِمَ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِ الصَّابِرِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَأْجُرُهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالصَّابِرُ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُنْفِقِ؛ لِأَنَّ حَسَنَتَهُ مُضَاعَفَةٌ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ، وَالْحَسَنَةُ فِي الْأَصْلِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَّا مَنْ شَاءَ الله أَنْ يَزِيدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْإِيمَانِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي فضل الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى حَدِيثٌ لَيْسَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَحَابِيٍّ لَمْ يُسَمَّ.
قَوْلُهُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى (لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ) هُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِيِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِسَنَدِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ فِيهِ: أَحَدٌ بِغَيْرِ شَكٍّ.
قَوْلُهُ: (أَصْبَرَ عَلَى أَذًى) هُوَ بِمَعْنَى الْحِلْمِ، أَوْ أَطْلَقَ الصَّبْرَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْحَبْسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ حَبْسُ الْعُقُوبَةِ عَلَى مُسْتَحِقِّهَا عَاجِلًا، وَهَذَا هُوَ الْحِلْمُ.
قَوْلُهُ: (عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ) قَدْ بَيَّنَهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ بِهِ وَيَرْزُقُهُمْ، وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ الْمَاضِيَةِ فِي بَابِ مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يَعْلَمُ بِلَفْظِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (قَسَمَ النَّبِيُّ ﷺ قَسْمًا) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، أَنَّهَا قِسْمَةُ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ، عَنِ أَبِي وَائِلٍ لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ ﷺ نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ؛ أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى نَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) تَقَدَّمَتْ تَسْمِيَتُهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ مَا أَرَادَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَفِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَهُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ أَمَا لَأَقُولَنَّ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: هِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أَمَّا بِتَشْدِيدِهَا وَلَيْسَ بِبَيِّنٍ. قُلْتُ: وَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ أَمَ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ التَّخْفِيفَ، وَيُوَجِّهُ التَّشْدِيدَ عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ أَمَّا إِذْ قُلْتَ ذَلِكَ لَأَقُولَنَّ.
قَوْلُهُ: (فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ) قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلُ بِأَكْثَرِ مِنْ عَشْرَةِ أَبْوَابٍ بِلَفْظِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَهُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَيَجُوزُ الْمُعْجَمَةِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ) فِي رِوَايَةٍ أَنْ بِفَتْحٍ وَتَخْفِيفٍ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ) فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ فَذَكَرَهُ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَنْصُورٍ فَقَالَ: فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى الْحَدِيثَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ إِخْبَارِ الْإِمَامِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ بِمَا يُقَالُ فِيهِمْ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ لِيُحَذِّرُوا الْقَائِلَ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا يُبَاحُ مِنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ لِأَنَّ صُورَتَهُمَا مَوْجُودَةٌ فِي صَنِيعِ ابْنِ مَسْعُودٍ، هَذَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَذَلِكَ أَنَّ قَصْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ نُصْحَ النَّبِيِّ ﷺ وَإِعْلَامَهُ بِمَنْ يَطْعَنُ فِيهِ مِمَّنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ النِّفَاقَ لِيَحْذَرَ مِنْهُ، وَهَذَا جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ لِيُؤْمَنَ مِنْ كَيْدِهِمْ، وَقَدِ ارْتَكَبَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ بِمَا قَالَ: إِثْمًا عَظِيمًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ. وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْفَضْلِ قَدْ يُغْضِبُهُمْ مَا يُقَالُ فِيهِمْ مِمَّا لَيْسَ فِيهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ اقْتِدَاءً بِمُوسَى ﵇، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: قَدْ أُوذِيَ مُوسَى إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى﴾ قَدْ حُكِيَ فِي صِفَةِ أَذَاهُمْ لَهُ ثَلَاثُ قَصَصٍ: إِحْدَاهَا قَوْلُهُمْ هُوَ آدَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَبْطُ ذَلِكَ وَشَرْحُهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى مِنْ أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ.
ثَانِيهَا فِي قِصَّةِ مَوْتِ هَارُونَ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ أَيْضًا فِي قِصَّةِ مُوسَى، ثَالِثُهَا فِي قِصَّتِهِ مَعَ قَارُونَ حَيْثُ أَمَرَ الْبَغِيَّ أَنْ تَزْعُمَ أَنَّ مُوسَى