الْعِلْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَةِ، وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاصْطِلَاحِ فَفِيهِ الْخِلَافُ: فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ، وَهَذَا رَأْيُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ وَأَكْثَرِ الْحِجَازِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ، وَعَلَيْهِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ الْمَغَارِبَةِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَنُقِلَ عَنِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى إِطْلَاقَ ذَلِكَ حَيْثُ يَقْرَأُ الشَّيْخُ مِنْ لَفْظِهِ وَتَقْيِيدِهِ حَيْثُ يُقْرَأُ عَلَيْهِ، وهو مَذْهَبُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ مَنْدَهْ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الصِّيَغِ بِحَسَبِ افْتِرَاقِ التَّحَمُّلِ: فَيَخُصُّونَ التَّحْدِيثَ بِمَا يَلْفِظُ بِهِ الشَّيْخُ، وَالْإِخْبَارُ بِمَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ وَهْبٍ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ. ثُمَّ أَحْدَثَ أَتْبَاعُهُمْ تَفْصِيلًا آخَرَ: فَمَنْ سَمِعَ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ أَفْرَدَ فَقَالَ حَدَّثَنِي وَمَنْ سَمِعَ مَعَ غَيْرِهِ جَمَعَ، وَمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ عَلَى الشَّيْخِ أَفْرَدَ فَقَالَ أَخْبَرَنِي، وَمَنْ سَمِعَ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ جَمَعَ. وَكَذَا خَصَّصُوا الْإِنْبَاءَ بِالْإِجَازَةِ الَّتِي يُشَافِهُ بِهَا الشَّيْخُ مَنْ يُجِيزُهُ، وكُلُّ هَذَا مُسْتَحْسَنٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا التَّمْيِيزَ بَيْنَ أَحْوَالِ التَّحَمُّلِ. وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ: فَتَكَلَّفُوا فِي الِاحْتِجَاجِ لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. نَعَمْ يَحْتَاجُ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَى مُرَاعَاةِ الِاصْطِلَاحِ الْمَذْكُورِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ ; لِأَنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً عِنْدَهُمْ، فَمَنْ تَجَوَّزَ عَنْهَا احْتَاجَ إِلَى الْإِتْيَانِ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ، وَإِلَّا فَلَا يُؤْمَنُ اخْتِلَاطُ الْمَسْمُوعِ بِالْمَجَازِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الِاصْطِلَاحِ، فَيُحْمَلُ مَا يَرِدُ مِنَ أَلْفَاظِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى مَحْمَلٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
٦١ - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ، ثم قالوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يا رسول الله؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ.
[الحديث ٦١ - أطرافه في: ٦١٤٤، ٦١٢٢، ٥٤٤٨، ٥٤٤٤، ٤٦٩٨، ٢٢٠٩، ١٢١، ٧٢، ٦٢]
قَوْلُهُ: (إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً) زَادَ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ وَقَالَ: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ. وَلَهُ عَنْهُ فِي الْبُيُوعِ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وهو يَأْكُلُ جُمَّارًا.
قَوْلُهُ: (لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مِثْلُ الْمُسْلِمِ) كَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِكَسْرِ مِيمِ مِثْلِ وَإِسْكَانِ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةِ بِفَتْحِهَا وَهُمَا بِمَعْنًى، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مِثْلُهُ وَمَثَلُهُ كَلِمَةُ تَسْوِيَةٍ كَمَا يُقَالُ شِبْهُهُ وَشَبَهُهُ بِمَعْنًى، قَالَ: وَالْمَثَلُ بِالتَّحْرِيكِ أَيْضًا مَا يُضْرَبُ مِنَ الْأَمْثَالِ، انْتَهَى. وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ النَّخْلَةِ وَالْمُسْلِمِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ سُقُوطِ الْوَرَقِ مَا رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ: قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: إِنَّ مِثْلَ الْمُؤْمِنِ كَمِثْلِ شَجَرَةِ لَا تَسْقُطُ لَهَا أُنْمُلَةٌ، أَتَدْرُونَ مَا هِيَ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ، لَا تَسْقُطُ لَهَا أُنْمُلَةٌ، وَلَا تَسْقُطُ لِمُؤْمِنٍ دَعْوَةٌ.
وَوَقَعَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ أُتِيَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبَرَكَةُ النَّخْلَةِ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا، مُسْتَمِرَّةٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، فَمِنْ حِينِ تَطْلُعُ إِلَى أَنْ تَيْبَسَ تُؤْكَلُ أَنْوَاعًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُنْتَفَعُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، حَتَّى النَّوَى فِي عَلْفِ الدَّوَابِّ وَاللِّيفِ فِي الْحِبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute