لِمَنْ قَالَ: الْحَكِيمُ لَا يُوَاجِهُ بِالْخِطَابِ إِلَّا مَنْ يَعْقِلُ وَيَفْهَمُ، قَالَ: وَالصَّوَابُ الْجَوَازُ حَيْثُ لَا يَكُونُ هُنَاكَ طَلَبُ جَوَابٍ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُخَاطِبْهُ فِي السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ بَلْ سَأَلَ غَيْرَهُ. وَفِيهِ مُعَاشَرَةُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ.
وَفِيهِ جَوَازُ قَيْلُولَةِ الشَّخْصِ فِي بَيْتٍ غَيْرِ بَيْتِ زَوْجَتِهِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ زَوْجَتُهُ، وَمَشْرُوعِيَّةُ الْقَيْلُولَةِ، وَجَوَازُ قَيْلُولَةِ الْحَاكِمِ فِي بَيْتِ بَعْضِ رَعِيَّتِهِ وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً، وَجَوَازُ دُخُولِ الرَّجُلِ بَيْتَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجُهَا غَائِبٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا إِذَا انْتَفَتِ الْفِتْنَةُ. وَفِيهِ إِكْرَامُ الزَّائِرِ وَأَنَّ التَّنَعُّمَ الْخَفِيفَ لَا يُنَافِي السُّنَّةَ، وَأَنَّ تَشْيِيعَ الْمَزُورِ الزَّائِرَ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ. وَفِيهِ أَنَّ الْكَبِيرَ إِذَا زَارَ قَوْمًا وَاسَى بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُ صَافَحَ أَنَسًا، وَمَازَحَ أَبَا عُمَيْرٍ، وَنَامَ عَلَى فِرَاشِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَصَلَّى بِهِمْ فِي بَيْتِهِمْ حَتَّى نَالُوا كُلُّهُمْ مِنْ بَرَكَتِهِ، انْتَهَى مَا لَخَّصْتُهُ مِنْ كَلَامِهِ فِيمَا اسْتَنْبَطَ مِنْ فَوَائِدِ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ أَبِي عُمَيْرٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ فَصْلًا فِي فَائِدَةِ تَتَبُّعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنْ خِلَافِ مَنْ شَرَطَ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ أَنْ تَتَعَدَّدَ طُرُقُهُ، فَقِيلَ: لِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ: لِثَلَاثَةٍ، وَقِيلَ: لِأَرْبَعَةٍ، وَقِيلَ: حَتَّى يَسْتَحِقَّ اسْمَ الشُّهْرَةِ، فَكَانَ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ مَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ لِكُلِّ أَحَدٍ غَالِبًا، وَفِي جَمِيعِ الطُّرُقِ أَيْضًا وَمَعْرِفَةِ مَنْ رَوَاهَا وَكَمِّيَّتِهَا الْعِلْمُ بِمَرَاتِبِ الرُّوَاةِ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ. وَفِيهَا الِاطِّلَاعُ عَلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ بِانْكِشَافِ غَلَطِ الْغَالِطِ وَبَيَانِ تَدْلِيسِ الْمُدَلِّسِ وَتَوْصِيلِ الْمُعَنْعَنِ. ثُمَّ قَالَ: وَفِيمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَمْعِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاسْتِنْبَاطِ فَوَائِدِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَهْمِ فِي النَّقْلِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُهْتَدَى لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنْهَا وَاحِدَةٌ، وَلَكِنْ مِنْ عَجَائِبِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ أَنَّهَا تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ; وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ مُلَخَّصًا. وَقَدْ سَبَقَ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى فَوَائِدِ قِصَّةِ أَبِي عُمَيْرٍ بِخُصُوصِهَا مِنَ الْقُدَمَاءِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَشُيُوخِ أَصْحَابِ السُّنَنِ، ثُمَّ تَلَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ ثُمَّ تَلَاهُ الْخَطَّابِيُّ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرُوهُ يَقْرُبُ مِنْ عَشْرَةِ فَوَائِدَ فَقَطْ، وَقَدْ سَاقَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ مَا ذَكَرَهُ ابْنِ الْقَاصِّ بِتَمَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ مَا هُوَ وَاضِحٌ، وَمِنْهَا الْخَفِيُّ، وَمِنْهَا الْمُتَعَسِّفُ. قَالَ: وَالْفَوَائِدُ الَّتِي ذَكَرَهَا آخِرًا وَأَكْمَلَ بِهَا السِّتِّينَ هِيَ مِنْ فَائِدَةِ جَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ لَا مِنْ خُصُوصِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَدْ بَقِيَ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْخَطَّابِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ لَا يَحْرُمُ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ أَنَّهُ صِيدَ فِي الْحِلِّ ثُمَّ أُدْخِلَ الْحَرَمَ فَلِذَلِكَ أُبِيحَ إِمْسَاكُهُ، وَبِهَذَا أَجَابَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَحْمَدَ وَالْكُوفِيِّينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ لَا يَحْرُمُ صَيْدُهُ. وَأَجَابَ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَعَكَسَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: قِصَّةُ أَبِي عُمَيْرٍ تَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَعَقَّبٌ. وَمَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ الْقَاصِّ مِنْ مُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ التَّحْقِيقُ فِيهِ جَوَازُ مُوَاجَهَتِهِ بِالْخِطَابِ إِذَا فُهِمَ الْخِطَابُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ فَائِدَةً وَلَوْ بِالتَّأْنِيسِ لَهُ، وَكَذَا فِي تَعْلِيمِهِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ عِنْدَ قَصْدِ تَمْرِينِهِ عَلَيْهِ مِنَ الصِّغَرِ كَمَا فِي قِصَّةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ لَمَّا وَضَعَ التَّمْرَةَ فِي فِيهِ قَالَ لَهُ: كِخْ كِخْ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا مُطْلَقًا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ خِطَابَ مَنْ حَضَرَ أَوِ اسْتِفْهَامَهُ مِمَّنْ يَعْقِلُ، وَكَثِيرًا مَا يُقَالُ لِلصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَفْهَمُ أَصْلًا إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْوَعْكِ: كَيْفَ أَنْتَ؟ وَالْمُرَادُ سُؤَالُ كَافِلِهِ أَوْ حَامِلِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ النَّضْحِ فِيمَا لَمْ يُتَيَقَّنْ طَهَارَتُهُ.
وَفِيهِ أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ لَا يُقْصَدُ مَعَانِيهَا، وَأَنَّ إِطْلَاقَهَا عَلَى الْمُسَمَّى لَا يَسْتَلْزِمُ الْكَذِبَ ; لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَمْ يَكُنْ أَبًا وَقَدْ دُعِيَ أَبَا عُمَيْرٍ. وَفِيهِ جَوَازُ السَّجْعِ فِي الْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلَّفًا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ مِنَ النَّبِيِّ كَمَا امْتَنَعَ مِنْهُ إِنْشَاءُ الشِّعْرِ. وَفِيهِ إِتْحَافُ الزَّائِرِ بِصَنِيعِ مَا يَعْرِفُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute