للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فَأَلْهَمَهُ رَبُّهُ أَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَقُولُ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ - بِالْجِيمِ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ إِذَا شَمَّتَ يَقُولُ: عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ النَّارِ، يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَأَدَّى إِلَّا بِالْمُخَاطَبَةِ، وَأَمَّا مَا اعْتَادَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِمْ لِلرَّئِيسِ: يَرْحَمُ اللَّهُ سَيِّدَنَا فَخِلَافُ السُّنَّةِ، وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُ شَمَّتَ رَئِيسًا فَقَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا سَيِّدَنَا، فَجَمَعَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ حَسَنٌ.

قَوْلُهُ: (فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ شَمَّتَ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ جَوَابُ التَّشْمِيتِ، وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى هَذَا، وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ يَقُولُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا. قُلْتُ: وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلُ، فَفِيهِ: وَلْيَقُلْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ. قُلْتُ: وَقَدْ وَافَقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى وَحَدِيثَ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وحديث علي عند الطبراني أَيْضًا وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي الشُّعَبِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: الثَّانِي أَوْلَى ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَحْسَنُ إِلَّا لِلذِّمِّيِّ.

وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ جَوَابِ التَّشْمِيتِ بِقَوْلِ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَشْمِيتُ الْيَهُودِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ تَخْرِيجِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، قَالَ: وَلَا حُجَّةَ فِيهِ إِذْ لَا تَضَادَّ بَيْنَ خَبَرِ أَبِي مُوسَى وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَعْنِي حَدِيثَ الْبَابِ - لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي جَوَابِ التَّشْمِيتِ وَحَدِيثَ أَبِي مُوسَى فِي التَّشْمِيتِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اجْتَمَعَ الْيَهُودُ وَالْمُسْلِمُونَ فَعَطَسَ النَّبِيُّ فَشَمَّتَهُ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا، فَقَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَيَرْحَمُنَا وَإِيَّاكُمْ. وَقَالَ لِلْيَهُودِ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. فَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ ضَعِيفٌ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الِاسْتِغْفَارَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَكُلُّ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْخَبَرِ بِالْأَمْرِ بِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ: وَهَذَا أَثْبَتُ مَا يُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ مِنْ أَثْبَتِ الْأَخْبَارِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ.

وَقَدْ أَخَذَ بِهِ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ قَالَ: وَالَّذِي يُجِيبُ بِقَوْلِهِ: غَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ ولَا يَزِيدُ الْمُشَمِّتَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ ; لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ سَتْرُ الذَّنْبِ وَالرَّحْمَةُ تَرْكُ الْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ دُعَائُهُ لَهُ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِصْلَاحِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنْ مُوَاقَعَةِ الذَّنْبِ صَالِحَ الْحَالِ، فَهُوَ فَوْقَ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ أَوْلَى. وَاخْتَارَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ أَنْ يَجْمَعَ الْمُجِيبُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَيَكُونُ أَجْمَعَ لِلْخَيْرِ وَيَخْرُجُ مِنَ الْخِلَافِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ.

قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَاطِسِ ; يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِمَّا رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَظِيمِ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، فَإِنَّهُ أَذْهَبَ عَنْهُ الضَّرَرَ