النَّبِيُّ ﷺ لِلْعِصْمَةِ مَأْمُونًا مِنَ الْفِتْنَةِ، فَمَنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالسَّلَامَةِ فَلْيُسَلِّمْ وَإِلَّا فَالصَّمْتُ أَسْلَمُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا: يُسَلِّمُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا يسَلِّمُ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ، وَسَنَدُهُ وَاهٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ مِثْلُهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (ابْنُ أَبِي حَازِمٍ) هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَاسْمُ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ بِيَوْمِ بِزِيَادَةِ مُوَحَّدَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ بِلَفْظِ: كُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَذَكَرَ سَبَبَ الْحَدِيثِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: كُنَّا نَفْرَحُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِسَهْلٍ: وَلِمَ)؟ بِكَسْرِ اللَّامِ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْقَائِلُ هُوَ أَبُو حَازِمٍ رَاوِي الْحَدِيثِ وَالْمُجِيبُ هُوَ سَهْلٌ.
قَوْلُهُ: (كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ) فِي الْجُمُعَةِ امْرَأَةٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهَا.
قَوْلُهُ: (تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ كَسْرُهَا، وَبِتَخْفِيفِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: نَخْلٌ بِالْمَدِينَةِ) الْقَائِلُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ وَهُوَ الْقَعْنَبِيُّ، وَفَسَّرَ بُضَاعَةَ بِأَنَّهَا نَخْلٌ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّخْلِ الْبُسْتَانُ، وَلِذَلِكَ كَانَ يُؤْتَى مِنْهَا بِالسِّلْقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ أَنَّه كَانَتْ مَزْرَعَةً لِلْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَفَسَّرَهَا غَيْرُهُ بِأَنَّهَا دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ، وَبِهَا بِئْرٌ مَشْهُورَةٌ وَبِهَا مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ الْمَدِينَةِ، كَذَا قَالَ عِيَاضٌ وَمُرَادُهُ بِالْمَالِ الْبُسْتَانُ وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ بِئْرُ بُسْتَانٍ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي سَعِيدٍ فِي حَدِيثِهِ يَعْنِي الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ أَنَّهَا كَانَتْ تُطْرَحُ فِيهَا خِرَقُ الْحُيَّضِ وَغَيْرُهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُطْرَحُ فِي الْبُسْتَانِ فَيُجْرِيهَا الْمَطَرُ وَنَحْوُهُ إِلَى الْبِئْرِ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ رَأَى بِئْرَ بُضَاعَةَ وَزَرْعَهَا وَرَأَى مَاءَهَا وَبَسَطَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ سُنَنِهِ، وَادَّعَى لطَّحَاوِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ سَيْحًا وَرَوَى ذَلِكَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِيعَابِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فِي قِدْرٍ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فِي الْقِدْرِ (وَتُكَرْكِرُ) أَيْ تَطْحَنُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْكَرْكَرَةُ الطَّحْنُ وَالْجَشُّ، وَأَصْلُهُ الْكَرُّ، وَضُوعِفَ لِتَكْرَارِ عَوْدِ الرَّحَى فِي الطَّحْنِ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَدْ تَكُونُ الْكَرْكَرَةُ بِمَعْنَى الصَّوْتِ كَالْجَرْجَرَةِ، وَالْكَرْكَرَةُ أَيْضًا شِدَّةُ الصَّوْتِ لِلضَّحِكِ حَتَّى يَفْحُشَ وَهُوَ فَوْقَ الْقَرْقَرَةِ.
قَوْلُهُ: (حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ) بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ أَنَّهَا قَبْضَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ شَرْحِهِ هُنَاكَ.
الْحَدِيثَ الثَّانِي:
قَوْلُهُ: (ابْنُ مُقَاتِلٍ) هُوَ مُحَمَّدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ: (يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ) تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمَنَاقِبِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ أَنَّ الدَّاوُدِيَّ اعْتَرَضَ فَقَالَ: لَا يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ رِجَالٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ذَكَّرَهُمْ بِالتَّذْكِيرِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ ﷺ عَلَى صُورَةِ الرَّجُلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ: سَلَامُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ جَائِزٌ إِذَا أُمِنَتِ الْفِتْنَةُ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَمَنَعَ مِنْهُ رَبِيعَةُ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يُشْرَعُ لِلنِّسَاءِ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ عَلَى الرِّجَالِ لِأَنَّهُنَّ مُنِعْنَ مِنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ، قَالُوا: وَيُسْتَثْنَى الْمَحْرَمُ فَيَجُوزُ لَهَا السَّلَامُ عَلَى مَحْرَمِهَا. قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَحُجَّةُ مَالِكٍ حَدِيثُ سَهْلٍ فِي الْبَابِ، فَإِنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ كَانُوا يَزُورُونَهَا وَتُطْعِمُهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ مَحَارِمِهَا انْتَهَى.
وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: إِنْ كَانَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ أَوْ مَحْرَمٌ أَوْ أَمَةٌ فَكَالرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً نَظَرَ: إِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً يُخَافُ الِافْتِتَانُ بِهَا لَمْ يُشْرَعِ السَّلَامُ لَا ابْتِدَاءً وَلَا جَوَابًا، فَلَوِ ابْتَدَأَ أَحَدُهُمَا كُرِهَ لِلْآخَرِ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا يُفْتَتَنُ بِهَا جَازَ. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْصِيلُ فِي الشَّابَّةِ بَيْنَ الْجَمَالِ وَعَدَمِهِ، فَإِنَّ الْجَمَالَ مَظِنَّةُ الِافْتِتَانِ،