سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ ﷺ يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ: أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ - قَالَ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاصْفَحْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُونَهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ. فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ.
قَوْلُهُ: (بَاب التَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ) أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: قَوْلُهُ: ابْنُ سَلُولَ، هِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ هَوَازِنَ وَهُوَ اسْمُ أُمِّهِ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْصَرِفُ. قُلْتُ: وَمُرَادُهُ أَنَّ اسْمَ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَافَقَ اسْمَ الْقَبِيلَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا أَنَّهُمَا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ. وَفِيهِ: حَتَّى مَرَّ فِي مَجْلِس فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ: فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا فِي بَابِ كُنْيَةِ الْمُشْرِكِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: السُّنَّةُ إِذَا مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ أَنْ يُسَلِّمَ بِلَفْظِ التَّعْمِيمِ وَيَقْصِدُ بِهِ الْمُسْلِمَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِثْلُهُ إِذَا مَرَّ بِمَجْلِسٍ يَجْمَعُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَبِمَجْلِسٍ فِيهِ عُدُولٌ وَظَلَمَةٌ، وَبِمَجْلِسٍ فِيهِ مُحِبٌّ وَمُبْغِضٌ. وَاسْتَدَلَّ النَّوَوِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ الْبَابِ، وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى مَنْعِ ابْتِدَاءِ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ صَرِيحًا فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطَّرِيقِ. وَلِلْبُخَارِيِّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ - وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ - الْغِفَارِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِنِّي رَاكِبٌ غَدًا إِلَى الْيَهُودِ، فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: يَجُوزُ ابْتِدَاءِ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ لِقولِهِ تَعَالَى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ وَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ ابْتِدَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ فَقَالَ: نَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَلَا نَبْدَؤُهُمْ. قَالَ عَوْنٌ: فَقُلْتُ لَهُ: فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَرَى بَأْسًا أَنْ نَبْدَأَهُمْ. قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: لِقولِهِ تَعَالَى: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ﴾
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ أنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَقِيَهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ السَّلَامَ تَحِيَّةً لِأُمَّتِنَا وَأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتِنَا. هَذَا رَأْيُ أَبِي أُمَامَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ ابْتِدَائِهِمْ أَوْلَى.
وَأَجَابَ عِيَاضٌ عَنِ الْآيَةِ وَكَذَا عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ ﵇ لِأَبِيهِ بِأَنَّ الْقَصْدَ بِذَلِكَ الْمُتَارَكَةُ وَالْمُبَاعَدَةُ وَلَيْسَ الْقَصْدُ فِيهِمَا التَّحِيَّةَ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ السَّلَفِ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ نُسِخَتْ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ حَدِيثِ أُسَامَةَ فِي سَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْكُفَّارِ حَيْثُ كَانُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ السَّلَامِ عَلَى الْكُفَّارِ ; لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَامٌّ وَحَدِيثُ أُسَامَةَ خَاصٌّ، فَيَخْتَصُّ مِنْ حَدِيثِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute