وَقَوْلُهُ: حِينَ يَنَامُونَ قَيَّدَهُ بِالنَّوْمِ لِحُصُولِ الْغَفْلَةِ بِهِ غَالِبًا، وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَتِ الْغَفْلَةُ حَصَلَ النَّهْيُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فَقَوْلُهُ احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَسْمِيَتِهِمْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى سَبَبُ الْأَمْرِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِإِطْفَاءِ الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ فَنٌّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَلَوْ تُتُبِّعَ لَحَصَلَ مِنْهُ فَوَائِدُ.
قُلْتُ: قَدْ أَفْرَدَهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ مِنْ شُيُوخِ أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ بِالتَّصْنِيفِ، وَهُوَ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ، وَوَقَفْتُ عَلَى مُخْتَصَرٍ مِنْهُ، وَكَأَنَّ الشَّيْخَ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ تَمَنَّى أَنْ لَوْ تُتُبِّعَ وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، هَكَذَا أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ مُبَالَغَةً فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مَعْنَى كَوْنِ النَّارِ عَدُوًّا لَنَا أَنَّهَا تُنَافِي أَبْدَانَنَا وَأَمْوَالَنَا مُنَافَاةَ الْعَدُوِّ، وَإِنْ كَانَتْ لَنَا بِهَا مَنْفَعَةٌ، لَكِنْ لَا يَحْصُلُ لَنَا مِنْهَا إِلَّا بِوَاسِطَةٍ فَأَطْلَقَ أَنَّهَا عَدُوٌّ لَنَا لِوُجُودِ مَعْنَى الْعَدَاوَةِ فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ كَثِيرٌ كَذَا لِلْأَكْثَرِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، زَادَ أَبُو ذَرٍّ فِي رِوَايَتِهِ هُوَ ابْنُ شِنْظِيرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ وَشِنْظِيرٌ بِكَسْرِ الشِّينِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ، تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَابِ ذِكْرِ الْجِنِّ مِنْ كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ وَشَرْحُ حَدِيثِهِ هَذَا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَوَقَعَ فِي رِجَالِ الصَّحِيحِ لِلْكَلَابَاذِيِّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ لَهُ أَيْضًا فِي بَابِ اسْتِعَانَةِ الْيَدِ فِي الصَّلَاةِ، فَرَاجَعْتُ الْبَابَ الْمَذْكُورَ مِنَ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قُبَيْلَ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، فَمَا وَجَدْتُ لَهُ هُنَاكَ ذِكْرًا، ثُمَّ وَجَدْتُ لَهُ بَعْدَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ بِأَحَدَ عَشَرَ بَابًا حَدِيثًا آخَرَ بِسَنَدِهِ هَذَا، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي بَابِ ذِكْرِ الْجِنِّ وَالشِّنْظِيرُ فِي اللُّغَةِ السَّيِّئُ الْخُلُقِ وَكَثِيرٌ الْمَذْكُورُ يُكَنَى أَبَا قُرَّةَ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلْإِرْشَادِ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ لِلنَّدْبِ وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ لِلْإِرْشَادِ لِكَوْنِهِ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهِيَ حِفْظُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمِ قَتْلُهَا وَالْمَالِ الْمُحَرَّمِ تَبْذِيرُهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا بَاتَ بِبَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُ، وَفِيهِ نَارٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْفِئَهَا قَبْلَ نَوْمِهِ أَوْ يَفْعَلَ بِهَا مَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِاحْتِرَاقُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ جَمَاعَةٌ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى بَعْضِهِمْ وَأَحَقُّهُمْ بِذَلِكَ آخِرُهُمْ نَوْمًا فَمَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ كَانَ لِلسُّنَّةِ مُخَالِفًا وَلِأَدَائِهَا تَارِكًا.
ثُمَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَجَرَّتِ الْفَتِيلَةَ فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا، فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا مِثْلَ مَوْضِعِ الدِّرْهَمِ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سِرَاجَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَيُحْرِقُكُمْ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ سَبَبِ الْأَمْرِ أَيْضًا، وَبَيَانُ الْحَامِلِ لِلْفُوَيْسِقَةِ - وَهِيَ الْفَأْرَةُ - عَلَى جَرِّ الْفَتِيلَةِ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَعِينُ وَهُوَ - عَدُوُّ الْإِنْسَانِ عَلَيْهِ - بَعْدُوٍّ آخَرَ وَهِيَ النَّارُ - أَعَاذَنَا اللَّهُ بِكَرَمِهِ مِنْ كَيَدِ الْأَعْدَاءِ إِنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي إِطْفَاءِ السِّرَاجِ الْحَذَرَ مِنْ جَرِّ الْفُوَيْسِقَةِ الْفَتِيلَةَ، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّ السِّرَاجَ إِذَا كَانَ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا الْفَأْرَةُ لَا يُمْنَعُ إِيقَادُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى مَنَارَةٍ مِنْ نُحَاسٍ أَمْلَسَ لَا يُمَكِّنُ الْفَأْرَةَ الصُّعُودَ إِلَيْهِ أَوْ يَكُونُ مَكَانَهُ بَعِيدًا عَنْ مَوْضِعٍ يُمْكِنُهَا أَنْ تَثِبَ مِنْهُ إِلَى السِّرَاجِ. قَالَ: وَأَمَّا وُرُودُ الْأَمْرِ بِإِطْفَاءِ النَّارِ مُطْلَقًا كَمَا فِي حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي مُوسَى - وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ نَارِ السِّرَاجِ - فَقَدْ يَتَطَرَّقُ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى غَيْرُ جَرِّ الْفَتِيلَةِ كَسُقُوطِ شَيْءٍ مِنَ السِّرَاجِ عَلَى بَعْضِ مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَكَسُقُوطِ الْمَنَارَةِ فَيُنْثَرُ السِّرَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَتَاعِ فَيُحْرِقُهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِيثَاقِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا اسْتَوْثَقَ بِحَيْثُ يُؤْمَنُ مَعَهُ الْإِحْرَاقُ فَيَزُولُ الْحُكْمُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ.
قُلْتُ: وَقَدْ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِذَلِكَ فِي الْقِنْدِيلِ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ مَعَهُ الضَّرَرُ الَّذِي لَا يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي السِّرَاجِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَيْضًا:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute