وَالْحَاكِمُ وَحَدِيثُهُ رَفَعَهُ: مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ، كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ الْخُوزِيِّ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، ثُمَّ زَايٍ عَنْهُ، وَهَذَا الْخُوزِيُّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَوَّاهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَظَنَّ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ، فَجَزَمَ بِأَنَّ أَحْمَدَ تَفَرَّدَ بِتَخْرِيجِهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَقَدْ جَزَمَ شَيْخُهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ بِمَا قُلْتُهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ، وَالْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْخُوزِيِّ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يُبْغِضْهُ، وَالْمَبْغُوضُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ انْتَهَى، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ: إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ. وَفِي سَنَدِهِ لِينٌ، وَقَدْ صَحَّحَهُ مَعَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ عَنْعَنَةَ بَقِيَّةٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيّ: الْأَوْلَى حَمْلُ الدُّعَاءِ فِي الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿عَنْ عِبَادَتِي﴾ فَوَجْهُ الرَّبْطِ أَنَّ الدُّعَاءَ أَخَصُّ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنِ الْعِبَادَةِ اسْتَكْبَرَ عَنِ الدُّعَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَالْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ تَرَكَ الدُّعَاءَ اسْتِكْبَارًا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَفَرَ، وَأَمَّا مَنْ تَرَكَهُ لِمَقْصَدٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ كُنَّا نَرَى أَنَّ مُلَازَمَةَ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهُ أَرْجَحُ مِنَ التَّرْكِ لِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْآتِيَةُ قَرِيبًا فِي السُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الْإِجَابَةَ مُشْتَرَطَةٌ بِالْإِخْلَاصِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ﴿فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى حَدِيثِ النُّعْمَانِ: أَنْ تُحْمَلَ الْعِبَادَةُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِذِ الدُّعَاءُ هُوَ إِظْهَارُ غَايَةِ التَّذَلُّلِ وَالِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ وَالِاسْتِكَانَةُ لَهُ وَمَا شُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ إِلَّا لِلْخُضُوعِ لِلْبَارِي وَإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ وَلِهَذَا خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ حَيْثُ عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ بِالِاسْتِكْبَارِ، وَوَضَعَ عِبَادَتِي مَوْضِعَ دُعَائِي وَجَعَلَ جَزَاءَ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارِ الصَّغَارُ وَالْهَوَانُ.
وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ فِي الرِّسَالَةِ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ اخْتُلِفَ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى: الدُّعَاءُ أَوِ السُّكُوتُ وَالرِّضَا؟ فَقِيلَ: الدُّعَاءُ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي تَرْجِيحُهُ لِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالِافْتِقَارِ، وَقِيلَ السُّكُوتُ وَالرِّضَا أَوْلَى لِمَا فِي التَّسْلِيمِ مِنَ الْفَضْلِ.
قُلْتُ: وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الدَّاعِيَ لَا يَعْرِفُ مَا قُدِّرَ لَهُ، فَدُعَاؤُهُ إِنْ كَانَ عَلَى وَفْقِ الْمَقْدُورِ، فَهُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِهِ، فَهُوَ مُعَانَدَةٌ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُضُوعِ وَالِافْتِقَارِ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ إِذْعَانًا لَا مُعَانَدَةً وَفَائِدَةُ الدُّعَاءِ تَحْصِيلُ الثَّوَابِ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا، قَالَ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا بِلِسَانِهِ رَاضِيًا بِقَلْبِهِ، قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِذَا وَجَدَ فِي قَلْبِهِ إِشَارَةَ الدُّعَاءِ، فَالدُّعَاءُ أَفْضَلُ وَبِالْعَكْسِ.
قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ أَنْ يَدْعُوَ بِلِسَانِهِ وَيَرْضَى بِقَلْبِهِ، وَالثَّانِي لَا يَتَأَتَّى مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْكُمَّلُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ نَصِيبٌ فَالدُّعَاءُ أَفْضَلُ وَمَا كَانَ لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ فَالسُّكُوتُ أَفْضَلُ، وَعَبَّرَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ لِمَا حَكَاهُ بِقَوْلِهِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِغَيْرِهِ وَيَتْرُكَ لِنَفْسِهِ، وَعُمْدَةُ مَنْ أَوَّلَ الدُّعَاءَ فِي الْآيَةِ بِالْعِبَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَدْعُو فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا لَمْ يَتَخَلَّفْ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ لَكِنْ تَتَنَوَّعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute