يَنْبَغِي عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ وَحُكِيَ الْقَوْلُ بِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ: مَا تَعَبَّدَنَا بِهِ، وَجَاءَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنْ مَالِكٍ يُكْرَهُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْجَوَازِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: يُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ، وَوَجَدْتُ بِخَطِّ بَعْضِ شُيُوخِي: مَذْهَبُ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى إِلَّا عَلَى مُحَمَّدٍ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ عَنْ مَالِكٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا
يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى مَا أُمِرْنَا بِهِ، وَخَالَفَهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ بِالرَّحْمَةِ، فَلَا يُمْنَعُ إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ.
قَالَ عِيَاضٌ: وَالَّذِي أَمِيلُ إِلَيْهِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ قَالُوا: يُذْكَرُ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ بِالرِّضَا وَالْغُفْرَانِ وَالصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ يَعْنِي اسْتِقْلَالًا لَمْ تَكُنْ مِنَ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا أُحْدِثَتْ فِي دَوْلَةِ بَنِي هَاشِمٍ، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَلَا أَعْرِفُ فِيهِ حَدِيثًا نَصًّا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ إِنْ ثَبَتَ ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُمْ رُسُلًا.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: لَا تَجُوزُ إِلَّا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ خَاصَّةً، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا اسْتِقْلَالًا، وَتَجُوزُ تَبَعًا فِيمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَوْ أُلْحِقَ بِهِ؛ لِقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ وَلِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّمَهُمُ السَّلَامَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَلَمَّا عَلَّمَهُمُ الصَّلَاةَ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ وَأَبُو الْمَعَالِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَةَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَجُوزُ تَبَعًا مُطْلَقًا وَلَا تَجُوزُ اسْتِقْلَالًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تُكْرَهُ اسْتِقْلَالًا لَا تَبَعًا، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَجُوزُ مُطْلَقًا وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ؛ فَإِنَّهُ صَدَّرَ بِالْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ ثُمَّ عَلَّقَ الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَعَقَّبَهُ بِالْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى الْجَوَازِ تَبَعًا، فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى فَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَوَقَعَ مِثْلُهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَفَعَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: إِنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ -
ﷺ صَلِّ عَلَيَّ وَعَلَى زَوْجِي فَفَعَلَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَهَذَا الْقَوْلُ جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَالطَّبَرِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ﴾ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى جَسَدِكِ، وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَهُمَا أَنْ يَخُصَّا مَنْ شَاءَا بِمَا شَاءَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْمَنْعِ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لَا مَا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْمُخْتَارُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ وَآلِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَتُكْرَهُ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لِشَخْصٍ مُفْرَدٍ، بِحَيْثُ يَصِيرُ شِعَارًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تُرِكَ فِي حَقِّ مِثْلِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ، كَمَا يَفْعَلُهُ الرَّافِضَةُ، فَلَوِ اتَّفَقَ وُقُوعُ ذَلِكَ مُفْرَدًا فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ شِعَارًا لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ فِي حَقِّ غَيْرِ مَنْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَهُمْ مَنْ أَدَّى زَكَاتَهُ إِلَّا نَادِرًا، كَمَا فِي قِصَّةِ زَوْجَةِ جَابِرٍ وَآلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ.
(تَنْبِيهٌ): اخْتُلِفَ فِي السَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي تَحِيَّةِ الْحَيِّ، فَقِيلَ: يُشْرَعُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: بَلْ تَبَعًا، وَلَا يُفْرَدُ لِوَاحِدٍ؛ لِكَوْنِهِ صَارَ شِعَارًا لِلرَّافِضَةِ، وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ.
قَوْلُهُ فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute