لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ، قُلْتُ: آأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِي لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ. قَالَ سَعْدٌ: رَثَى لَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْوَجَعِ) أَيْ: بِرَفْعِ الْمَرَضِ عَمَّنْ نَزَلَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْوَبَاءِ وَتَفْسِيرُهُ فِي بَابِ مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ مِنْ كِتَابِ الطِّبِّ، وَأَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الطَّاعُونِ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ مَرَضٌ عَامٌّ يَنْشَأُ عَنْ فَسَادِ الْهَوَاءِ، وَقَدْ يُسَمَّى طَاعُونًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَأَوْضَحْتُ هُنَاكَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّاعُونَ وَالْوَبَاءَ مُتَرَادِفَانِ بِمَا ثَبَتَ هُنَاكَ أَنَّ الطَّاعُونَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، وَأَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، وَكَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عُمَرَ فَوَقَعَ بِالْمَدِينَةِ بِالنَّاسِ مَوْتٌ ذَرِيعٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: انْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ الْوَبَاءُ؛ لِأَنَّهُ الْمَرَضُ الْعَامُّ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ حَيْثُ قَالَتْ فِي أَوَّلِهِ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوَبَأُ أَرْضِ اللَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ.
ثَانِيهِمَا: حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: عَادَنِي النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى الْحَدِيثَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالرُّكْنِ الثَّانِي مِنَ التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ الْوَجَعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: قَالَ سَعْدٌ: رَثَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَخْ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ إِدْرَاجًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ يَرْثِي لَهُ إِلَخْ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، مُتَمَسِّكًا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَفِيهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ إِلَخْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، هَلْ وَصَلَ هَذَا الْقَدْرُ عَنْ سَعْدٍ أَوْ قَالَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَالْحُكْمُ لِلْوَصْلِ؛ لِأَنَّ مَعَ رُوَاتِهِ زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَهُوَ حَافِظٌ، وَشَاهِدُ التَّرْجَمَةِ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ: اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى الدُّعَاءِ لِسَعْدٍ بِالْعَافِيَةِ لِيَرْجِعَ إِلَى دَارِ هِجْرَتِهِ وَهِيَ الْمَدِينَةُ، وَلَا يَسْتَمِرَّ مُقِيمًا بِسَبَبِ الْوَجَعِ بِالْبَلَدِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَهِيَ مَكَّةُ، وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ إِلَخْ وَقَدْ أَوْضَحْتُ فِي أَوَائِلِ الْوَصَايَا مَا يَتَعَلَّقُ بِسَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْمُزَيِّنِ الْمَالِكِيُّ أَنَّ الرِّثَاءَ لِسَعْدِ ابْنِ خَوْلَةَ بِسَبَبِ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا مَتَى رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى مَرِضَ بِهَا فَمَاتَ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ سَكَنَ مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَقِيلَ: مَاتَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ لِلْمُهَاجِرِينَ أَنْ يُقِيمُوا بِمَكَّةَ إِلَّا ثَلَاثًا بَعْدَ الصَّدْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ سَعْدَ ابْنَ خَوْلَةَ تُوُفِّيَ قَبْلَ تِلْكَ الْحَجَّةِ، وَقِيلَ: مَاتَ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ أَطَالَ الْمَقَامَ بِمَكَّةَ بِغَيْرِ عُذْرٍ إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ لَمْ يَأْثَمْ، وَقَدْ قَالَ ﷺ حِينَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ -: أَحَابِسَتُنَا هِيَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْمُهَاجِرِ إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَنْ يُقِيمَ أَزْيَدَ مِنَ الثَّلَاثِ الْمَشْرُوعَةِ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَقَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ قَالَهَا ﷺ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ثُمَّ حَجَّ فَقَرَنَهَا الرَّاوِي بِالْحَدِيثِ؛ لِكَوْنِهَا مِنْ تَكْمِلَتِهِ، انْتَهَى. وَكَلَامُهُ مُتَعَقَّبٌ فِي مَوَاضِعَ؛ مِنْهَا: اسْتِشْهَادُهُ بِقِصَّةِ صَفِيَّةَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تُجَاوِزَ الثَّلَاثَ الْمَشْرُوعَةَ، وَالِاحْتِبَاسُ الِامْتِنَاعُ وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْيَوْمِ بَلْ بِدُونِهِ، وَمِنْهَا: جَزْمُهُ بِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute