رِوَايَةِ بَيَانٍ لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي. وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَعْلَى، وَمُحَمَّدٍ ابْنَيْ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِسَنَدِهِ فِي آخِرِهِ وَضَلَّ عَمَلِيَهْ بِزِيَادَةِ هَاءٍ فِي آخِرِهِ وَهِيَ هَاءُ السَّكْتِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ سَاغَ لِسَعْدٍ أَنْ يَمْدَحَ نَفْسَهُ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ تَرْكُ ذَلِكَ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ سَاغَ لَهُ لَمَّا عَيَّرَهُ الْجُهَّالُ بِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، فَاضْطَرَّ إِلَى ذِكْرِ فَضْلِهِ، وَالْمِدْحَةُ إِذَا خَلَتْ عَنِ الْبَغْيِ وَالِاسْتِطَالَةِ، وَكَانَ مَقْصُودُ قَائِلِهَا إِظْهَارَ الْحَقِّ، وَشُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ لَمْ يُكْرَهْ، كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: إِنِّي لَحَافِظٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَالِمٌ بِتَفْسِيرِهِ وَبِالْفِقْهِ فِي الدِّينِ، قَاصِدًا إِظْهَارَ الشُّكْرِ أَوْ تَعْرِيفَ مَا عِنْدَهُ لِيُسْتَفَادَ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ، وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ ﵇: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ وَقَالَ عَلِيٌّ: سَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي لَأَتَيْتُهُ، وَسَاقَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا وَآثَارًا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي عُثْمَانُ) هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَجَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ النَّخَعِيُّ، وَالْأَسْوَدُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ) أَيِ النَّبِيُّ ﷺ (مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ) يَخْرُجُ مَا كَانُوا فِيهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ (مِنْ طَعَامِ بُرٍّ) يَخْرُجُ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَأْكُولَاتِ (ثَلَاثَ لَيَالٍ) أَيْ بِأَيَّامِهَا (تِبَاعًا) يَخْرُجُ التَّفَارِيقُ (حَتَّى قُبِضَ) إِشَارَةً إِلَى اسْتِمْرَارِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ بِمَا فِيهَا مِنْ أَيَّامِ أَسْفَارِهِ فِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَزَادَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَمَا رُفِعَ عَنْ مَائِدَتِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَضْلًا حَتَّى قُبِضَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مَنْصُورٍ فِيهِ بِلَفْظِ مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ أَخْرَجَاهُ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ مَسْرُوقٍ عَنْهَا: وَاللَّهِ مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَائِشَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَتْ تَأْتِي عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مَا يَشْبَعُ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ حَدِيثِ الْبَابِ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعْدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْهُ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَأَخْرَجَهُ مسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ غَدَاءً وَعَشَاءً، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَبْعَتَيْنِ فِي يَوْمٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: مَا شَبِعَ مِنْ غَدَاءٍ أَوْ عَشَاءٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النَّاسِ كَوْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَطْوُونَ الْأَيَّامَ جُوعًا، مَعَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ قَسَمَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ أَلْفَ بَعِيرٍ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ سَاقَ فِي عُمْرَتِهِ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَهَا وَأَطْعَمَهَا الْمَسَاكِينَ، وَأَنَّهُ أَمَرَ لِأَعْرَابِيٍّ بِقَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَطَلْحَةَ وَغَيْرِهِمْ، مَعَ بَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَعُمَرُ بِنِصْفِهِ، وَحَثَّ عَلَى تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَجَهَّزَهُمْ عُثْمَانُ بِأَلِفِ بَعِيرٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ لَا لِعَوْزٍ وَضِيقٍ، بَلْ تَارَةً لِلْإِيثَارِ وَتَارَةً لِكَرَاهَةِ الشِّبَعِ وَلِكَثْرَةِ الْأَكْلِ انْتَهَى.
وَمَا نَفَاهُ مُطْلَقًا فِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ آنِفًا، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّا كُنَّا نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ فَقَدْ كَذَبَكُمْ، فَلَمَّا افْتُتِحَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute