عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ غَيْرَهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ.
[الحديث ٦٤٩٩ - طرفه في: ٧١٥٢]
قَوْلُهُ: (بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ) الرِّيَاءُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالْمَدِّ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِظْهَارُ الْعِبَادَةِ لِقَصْدِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهَا فَيَحْمَدُوا صَاحِبَهَا، وَالسُّمْعَةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ سَمِعَ، وَالْمُرَادُ بِهَا نَحْوُ مَا فِي الرِّيَاءِ، لَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَالرِّيَاءُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمَعْنَى طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بِأَنْ يُرِيَهِمُ الْخِصَالَ الْمَحْمُودَةَ، وَالْمُرَائِي هُوَ الْعَامِلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الرِّيَاءُ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالسُّمْعَةُ أَنْ يُخْفِيَ عَمَلَهُ لِلَّهِ ثُمَّ يُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ. وَسُفْيَانُ فِي الطَّرِيقَيْنِ هُوَ الثَّوْرِيُّ، وَالسَّنَدُ الثَّانِي أَعْلَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِهِ مَعَ عُلُوِّهُ، لِأَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَزَايَا وَهِيَ جَلَالَةُ الْقَطَّانِ وَمَا وَقَعَ فِي سِيَاقِهِ مِنْ تَصْرِيحِ سُفْيَانَ بِالتَّحْدِيثِ، وَنِسْبَةُ سَلَمَةَ شَيْخِ الثَّوْرِيِّ وَهُوَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ بِالتَّصْغِيرِ ابْنِ حُصَيْنٍ الْحَضْرَمِيِّ، وَالسَّنَدُ الثَّانِي كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ غَيْرَهُ. وَثَبَتَ كَذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ، وَقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ حَدِيثًا مُسْنَدًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا مِنْ جُنْدُبٍ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ الصَّحَابِيُّ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مُرَادُهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَئِذٍ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
قُلْتُ: احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ عَمَّنْ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ مَوْجُودًا إِذْ ذَاكَ بِغَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ جُنْدَبٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ جُنْدَبًا كَانَ بِالْكُوفَةِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ بِهَا فِي حَيَاةِ جُنْدَبٍ، أَبُو جُحَيْفَةَ السَّوَائِيُّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ جُنْدَبٍ بِسِتِّ سِنِينَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ جُنْدَبٍ بِعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ رَوَى سَلَمَةُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمَا وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَا مِنْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِغَيْرِ الْكُوفَةِ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ مِنْ جُنْدَبٍ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (مَنْ سَمَّعَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الثَّقِيلَةِ وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا، وَقَوْلُهُ وَمَنْ يُرَائِي بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَالْمَدِّ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْيَاءُ فِي آخِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَمَّا الْأُولَى فَلِلْإِشْبَاعِ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَكَذَلِكَ، أَوِ التَّقْدِيرُ فَإِنَّهُ يُرَائِي بِهِ اللَّهَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: مَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائي يُرَائي اللَّهُ بِهِ. وَلِابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ تَطَاوَلَ تَعَاظُمًا خَفَضَهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَوَاضَعَ تَخَشُّعًا رَفَعَهُ اللَّهُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ (١) من سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ. وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ: وَمَنْ كَانَ ذَا لِسَانَيْنِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا عَلَى غَيْرِ إِخْلَاصٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ وَيَسْمَعُوهُ، جُوزِيَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُشَهِّرَهُ اللَّهُ وَيَفْضَحَهُ وَيُظْهِرَ مَا كَانَ يُبْطِنُهُ.
وَقِيلَ: مَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ الْجَاهَ وَالْمَنْزِلَةَ عِنْدَ النَّاسِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهُ حَدِيثًا عِنْدَ النَّاسِ الَّذِينَ أَرَادَ نَيْلَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ، وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى يُرَائِي يُطْلِعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ لَا لِوَجْهِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
(١) بياض بالأصل، وهو عند مسلم في كتاب الزهد والرقاق ٥٣ الحديث ٤٧ (الرقم العام ٢٩٨٦)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute