عَنْ إِرَادَتِهَا مِنَ الشَّغْلِ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ التَّرْجَمَةِ لِحَدِيثِ الْبَابِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: جِهَادُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْمَلُ. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ * وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ الْآيَةَ. وَيَقَعُ بِمَنْعِ النَّفْسِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَبِمَنْعِهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَبِمَنْعِهَا مِنَ الْإِكْثَارِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ لِتَتَوَفَّرَ لَهَا فِي الْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَلِئَلَّا يَعْتَادَ الْإِكْثَارَ فَيَأْلَفَهُ فَيَجُرُّهُ إِلَى الشُّبُهَاتِ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ. وَنَقَلَ الْقُشَيْرِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بِدَايَتِهِ صَاحِبَ مُجَاهِدَةٍ لَمْ يَجِدْ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ شِمَّةً.
وَعَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ بُجَيْدٍ: مَنْ كَرُمَ عَلَيْهِ دِينُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَصْلُ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ فَطْمُهَا عَنِ الْمَأْلُوفَاتِ، وَحَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ هَوَاهَا، وَلِلنَّفْسِ صِفَتَانِ: انْهِمَاكٌ فِي الشَّهَوَاتِ، وَامْتِنَاعٌ عَنِ الطَّاعَاتِ، فَالْمُجَاهَدَةُ تَقَعُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: جِهَادُ النَّفْسِ دَاخِلٌ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْأَعْدَاءَ ثَلَاثَةٌ: رَأْسُهُمُ الشَّيْطَانُ، ثُمَّ النَّفْسُ؛ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى اللَّذَّاتِ الْمُفْضِيَةِ بِصَاحِبِهَا إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ الَّذِي يُسْخِطُ الرَّبَّ، وَالشَّيْطَانُ هُوَ الْمُعِينُ لَهَا عَلَى ذَلِكَ وَيُزَيِّنُهُ لَهَا، فَمَنْ خَالَفَ هَوَى نَفْسِهِ قَمَعَ شَيْطَانَهُ، فَمُجَاهَدَتُهُ نَفْسَهُ حَمْلُهَا عَلَى اتِّبَاعِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَإِذَا قَوِيَ الْعَبْدُ عَلَى ذَلِكَ سَهُلَ عَلَيْهِ جِهَادُ أَعْدَاءِ الدِّينِ، فَالْأَوَّلُ الْجِهَادُ الْبَاطِنُ، وَالثَّانِي الْجِهَادُ الظَّاهِرُ، وَجِهَادُ النَّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: حَمْلُهَا عَلَى تَعَلُّمِ أُمُورِ الدِّينِ، ثُمَّ حَمْلُهَا عَلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ، ثُمَّ حَمْلُهَا عَلَى تَعْلِيمِ مَنْ لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَقِتَالِ مَنْ خَالَفَ دِينَهُ وَجَحَدَ نِعَمَهُ. وَأَقْوَى الْمُعِينِ عَلَى جِهَادِ النَّفْسِ جِهَادُ الشَّيْطَانِ بِدَفْعِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِ مِنَ الشُّبْهَةِ وَالشَّكِّ، ثُمَّ تَحْسِينِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ مَا يُفْضِي الْإِكْثَارُ مِنْهُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ. وَتَمَامُ ذَلِكَ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا لِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ اسْتَهْوَاهُ شَيْطَانُهُ وَنَفْسُهُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَنْهِيَّاتِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ: هَمَّامٌ هُوَ ابْنُ يَحْيَى.
قَوْلُهُ: (أَنَسٌ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ) هَكَذَا رَوَاهُ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَمُقْتَضَاهُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ مُعَاذٍ، وَخَالَفَهُ هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ فَقَالَ: عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ - يَا مُعَاذُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْعِلْمِ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَتْبَعَ رِوَايَةَ هِشَامٍ رِوَايَةَ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ ذَكَرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِمُعَاذٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَنَسًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: ذُكِرَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ حَمَلَهُ عَنْ مُعَاذٍ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَقَدْ أَشَرْتُ فِي شَرْحِهِ فِي الْعِلْمِ إِلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ حَمَلَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ، عَنْ مُعَاذٍ، أَوْ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ مُعَاذٍ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ رُجِّحَ لِي أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ وَإِنِ اتَّحَدَ مَخْرَجُهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَمَتْنُهُمَا فِي كَوْنِ مُعَاذٍ رِدْفَ النَّبِيِّ ﷺ لِلِاخْتِلَافِ فِيمَا وَرَدَا فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ فِي حَقِّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَحَقِّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ، وَالْمَاضِي فِيمَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَكَذَا رِوَايَةُ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَأَبِي رَزِينٍ، وَأَبِي الْعَوَّامِ كُلُّهُمْ عَنْ مُعَاذٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَرِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ حَدِيثِ الْبَابِ، وَنَحْوُهَا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ
مُعَاذٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ هِشَامٍ الَّتِي فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مُعَاذٍ نَحْوُ حَدِيثِ الْبَابِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَتَيْنَا مُعَاذًا فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا مِنْ غَرَائِبِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ.
قَوْلُهُ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ اللِّبَاسِ قَبْلَ الْأَدَبِ بِبَابَيْنِ.
قَوْلُهُ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ لِلْبَعِيرِ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute