وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا أَوَّلُ ابْتِدَاءِ قِيَامِ السَّاعَةِ بِتَغَيُّرِ الْعَالِمِ الْعَلَوِيِّ، فَإِذَا شُوهِدَ ذَلِكَ حَصَلَ الْإِيمَانُ الضَّرُورِيُّ بِالْمُعَايَنَةِ، وَارْتَفَعَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، فَهُوَ كَالْإِيمَانِ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ، وَهُوَ لَا يَنْفَعُ، فَالْمُشَاهَدَةُ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ مِثْلُهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا: فَعَلَى هَذَا فَتَوْبَةُ مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ أَوْ كَانَ كَالْمَشَاهِدِ لَهُ مَرْدُودَةٌ، فَلَوِ امْتَدَّتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُنْسَى هَذَا الْأَمْرُ أَوْ يَنْقَطِعَ تَوَاتُرُهُ وَيَصِيرَ الْخَبَرُ عَنْهُ آحَادًا فَمَنْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ أَوْ تَابَ قُبِلَ مِنْهُ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يُكْسَيَانِ الضَّوْءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَطْلُعَانِ وَيَغْرُبَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ كَمَا كَانَا قَبْلَ ذَلِكَ.
قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: إِنَّمَا لَا يُقْبَلُ الْإِيمَانُ وَالتَّوْبَةُ وَقْتَ الطُّلُوعِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ صَيْحَةٌ فَيَهْلِكُ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ أَسْلَمَ أَوْ تَابَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَمَنْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ. قَالَ: وَذَكَرَ الْمَيَانِشِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ قَالَ: تَبْقَى النَّاسُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ. قُلْتُ: رَفْعُ هَذَا لَا يَثْبُتُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ مَا يُعَارِضُهُ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: الْآيَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ فِي سِلْكٍ إِذَا انْقَطَعَ السِّلْكُ تَبِعَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ: إِذَا طَلَعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا خَرَّ إِبْلِيسُ سَاجِدًا يُنَادِي إِلَهِي مُرْنِي أَنْ أَسْجُدَ لِمَنْ شِئْتَ الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ نُعَيْمٌ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ بِأَسَانِيدَ مُخْتَلِفَةٍ. وَعِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ رَفَعَهُ: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ عَشْرُ آيَاتٍ كَالنَّظْمِ فِي الْخَيْطِ، إِذَا سَقَطَ مِنْهَا وَاحِدةٌ تَوَالَتْ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ بَيْنَ أَوَّلِ الْآيَاتِ وَآخِرِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ يَتَتَابَعْنَ كَتَتَابُعِ الْخَرَزَاتِ فِي النِّظَامِ.
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِأَنَّ الْمُدَّةَ وَلَوْ كَانَتْ كَمَا قَالَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ لَكِنَّهَا تَمُرُّ مُرُورًا سَرِيعًا كَمِقْدَارِ مُرُورِ عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَهْرٍ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ أَوْ دُونَ ذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَالْيَوْمُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَقَالَ فِي بَابِ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَصْلٌ ذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ الدَّجَّالُ، ثُمَّ نُزُولُ عِيسَى، لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنَ الْمُغْرِبِ لَوْ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ عِيسَى لَمْ يَنْفَعِ الْكُفَّارَ إِيمَانُهُمْ فِي زَمَانِهِ، وَلَكِنَّهُ يَنْفَعُهُمْ، إِذْ لَوْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ لَمَا صَارَ الدِّينُ وَاحِدًا بِإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ لَوْ لَمْ يُعَارِضِ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمَذْكُورَ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو طُلُوعُ الشَّمْسِ أَوْ خُرُوجُ الدَّابَّةِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْجَزْمُ بِهِمَا وَبِالدَّجَّالِ فِي عَدَمِ نَفْعِ الْإِيمَانِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ سَابِقٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ النَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِ الْقَرْنِ الَّذِينَ شَاهَدُوا ذَلِكَ، فَإِذَا انْقَرَضُوا وَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ وَعَادَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ عَادَ تَكْلِيفُهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ، وَكَذَا فِي قِصَّةِ الدَّجَّالِ لَا يَنْفَعُ إِيمَانُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الدَّجَّالِ، وَيَنْفَعُهُ بَعْدَ انْقِرَاضِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ طُلُوعَ الشَّمْسِ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو آيَاتٍ أُخْرَى غَيْرَ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى، إِذْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عِيسَى.
قُلْتُ: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ تُخَالِفُهُ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ رَفَعَهُ: لَا تَزَالُ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ حَتَّى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute