وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْقِيَامَةِ تَشْبِيهًا بِذَلِكَ لِسُرْعَةِ الْحِسَابِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ أَوْ لَمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ وَأُطْلِقَتِ السَّاعَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: السَّاعَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ بَعْثُ النَّاسِ لِلْمُحَاسَبَةِ، وَالْوُسْطَى وَهِيَ مَوْتُ أَهْلِ الْقَرْنِ الْوَاحِدِ نَحْوُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ فَقَالَ: إِنْ يَطُلْ عُمُرُ هَذَا الْغُلَامِ لَمْ يَمُتْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالصُّغْرَى مَوْتُ الْإِنْسَانِ، فَسَاعَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ مَوْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ﷺ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ: تَخَوَّفْتُ السَّاعَةَ يَعْنِي مَوْتَهُ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَا هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَزْمًا. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: لَا أَدْرِي ابْتِدَاءً مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَفَاءِ وَقَبْلَ تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ لَارْتَابُوا فَعَدَلَ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَنْقَرِضُونَ هُمْ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ تَمَكَّنَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ لَأَفْصَحَ لَهُمْ بِالْمُرَادِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَكَلَّمُ بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ دَلِيلٌ مَعْمُولٌ بِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فِي تَقْرِيبِ السَّاعَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى مُضِيِّ قَرْنٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الدَّجَّالِ: إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ، فَجَوَّزَ خُرُوجَ الدَّجَّالِ فِي حَيَاتِهِ، قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
قُلْتُ: وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي أَبَدَاهُ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالَّذِي قَبْلَهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنِ السَّاعَةِ وَعَنِ الدَّجَّالِ تَعْيِينُ الْمُدَّةِ فِي السَّاعَةِ دُونَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَخْبَرَ ﷺ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى حَدَّثَ بِهَا خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أُمُورًا عِظَامًا كَمَا سَيَأْتِي بَعْضُهَا صَرِيحًا وَإِشَارَةً، وَمَضَى بَعْضُهَا فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ.
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ دَعُوا السُّؤَالَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى فَإِنَّهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَاسْأَلُوا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ انْقِرَاضُ عَصْرِكُمْ فَهُوَ أَوْلَى لَكُمْ، لِأَنَّ مَعْرِفَتَكُمْ بِهِ تَبْعَثُكُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ فَوْتِهِ، لِأَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَنِ الَّذِي يَسْبِقُ الْآخَرَ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ، قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَحَلْحَلَةُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَلَامَيْنِ الْأُولَى سَاكِنَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِسَمَاعِهِ مِنِ ابْنِ كَعْبٍ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الرُّوَاةُ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ.
قَوْلُهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُرَّ بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْمَارِّ وَلَا الْمَمْرُورِ بِجِنَازَتِهِ.
قَوْلُهُ: (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ. وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّآتِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ بِلَفْظِ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ جِنَازَةٌ وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى عَلَى، وَذِكْرُ الْجِنَازَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَيِّتِ.
قَوْلُهُ: قَالَ مُسْتَرِيحٌ) كَذَا هُنَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ فَقَالَ بِزِيَادَةِ الْفَاءِ فِي أَوَّلِهِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُحَارِبِيِّ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا لِلنَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ طَلَعَتْ جِنَازَةٌ.
قَوْلُهُ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، الْوَاوُ فِيهِ بِمَعْنَى أَوْ، وَهِيَ لِلتَّقْسِيمِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِمُقْتَضَاهُ فِي جَوَابِ سُؤَالِهِمْ.
قَوْلُهُ: قَالُوا) أَيِ الصَّحَابَةُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّائِلِ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، إِلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ قُلْنَا فَيَدْخُلُ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّائِلَ.
قَوْلُهُ: (مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ) فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ بِإِعَادَةِ مَا.
قَوْلُهُ: مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا، زَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ مِنْ أَوْصَابِ الدُّنْيَا وَالْأَوْصَابُ جَمْعُ وَصَبٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ وَهُوَ دَوَامُ الْوَجَعِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى فُتُورِ الْبَدَنِ، وَالنَّصَبُ بِوَزْنِهِ لَكِنْ أَوَّلُهُ نُونٌ هُوَ التَّعَبُ وَزْنَهُ وَمَعْنَاهُ، وَالْأَذَى مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: