آخَرَ بعده، فَمَنْ أَدْرَكَ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَآمَنَ بِهِ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْعَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ عِيسَى ﵇ لِكَوْنِهِ أُرْسِلَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً.
نَعَمِ الْإِشْكَالُ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ الْمُوَافِقَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ آمَنُوا مِنْهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ، فَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِيَّ وَفِيمَنْ آمَنَ مَعِي. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَشَرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - مِنْهُمْ أَبُي رِفَاعَةَ - إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَآمَنُوا بِهِ فَأُوذُوا، فَنَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ الْآيَاتِ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِعِيسَى بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ إِلَى أَنْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَيُحْتَمَلُ إِجْرَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ طَرَيَانُ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ سَبَبًا لِقَبُولِ تِلْكَ الْأَدْيَانِ وَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوخَةً، انْتَهَى. وَسَأَذْكُرُ مَا يُؤَيِّدُهُ بَعْدُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ: إِنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ عِيسَى ﵇؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْتَشِرْ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، فَاسْتَمَرُّوا عَلَى يَهُودِيَّتِهِمْ مُؤْمِنِينَ بِنَبِيِّهِمْ مُوسَى ﵇، إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَوَائِدُ): الْأُولَى: وَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ التِّينِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَهُوَ صَوَابٌ فِي عَبْدِ اللَّهِ خَطَأٌ فِي كَعْبٍ ; لِأَنَّ كَعْبًا لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَمْ يُسْلِمْ إِلَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ ; لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْهِجْرَةِ، وَسَلْمَانَ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْبُيُوعِ. وَهُمَا صَحَابِيَّانِ مَشْهُورَانِ.
الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْكِتَابِيُّ الَّذِي يُضَاعَفُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى الْحَقِّ فِي شَرْعِهِ عَقْدًا وَفِعْلًا إِلَى أَنْ آمَنَ بِنَبِيِّنَا ﷺ فَيُؤْجَرُ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، انْتَهَى. وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ: أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَهِرَقْلُ كَانَ مِمَّنْ دَخَلَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ، وَقَدْ قَدَّمْتُ بَحْثَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ. الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَوْنِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَتَنَاوَلُ الْيَهُودَ الْبَتَّةَ، وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَ الْأُمَمِ فِيمَا فَعَلُوهُ مِنْ خَيْرٍ كَمَا فِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ الْآتِي: أَسْلَمْتُ عَلَى مَا أَسْلَفْتُ مِنْ خَيْرٍ وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُقَيَّدٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُمْ إِلَّا بِقِيَاسِ الْخَيْرِ عَلَى الْإِيمَانِ. وَأَيْضًا فَالنُّكْتَةُ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ بِنَبِيِّهِ الْإِشْعَارُ بِعِلِّيَّةِ الْأَجْرِ، أَيْ: أَنَّ سَبَبَ الْأَجْرَيْنِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّينَ، وَالْكُفَّارُ لَيْسُوا كَذَلِكَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا ﷺ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾ فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ مِنْهُمْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَا مَنْ كَذَّبَهُ مِنْهُمْ كَانَ وِزْرُهُ أَشَدَّ مِنْ وِزْرِ غَيْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ لِكَوْنِ الْوَحْيِ كَانَ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِهِنَّ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يُذْكَرْنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَيَكُونُ الْعَدَدُ أَرْبَعَةً؟ أَجَابَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّ قَضِيَّتَهُنَّ خَاصَّةٌ بِهِنَّ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِنَّ، وَالثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ مُسْتَمِرَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا مَصِيرُ من شَيْخِنَا إِلَى أَنَّ قَضِيَّةَ مُؤْمِنِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُسْتَمِرَّةٌ، وَقَدِ ادَّعَى الْكِرْمَانِيُّ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِمَنْ آمَنَ فِي عَهْدِ الْبَعْثَةِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ نَبِيَّهُمْ بَعْدَ الْبَعْثَةِ إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ بَعْثَتِهِ، انْتَهَى. وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يَتِمُّ لِمَنْ كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ فَإِنْ خَصَّهُ بِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute