قَالَ النَّوَوِيُّ: أَشْهَرُهُمَا الْفَتْحُ بِلَا تَنْوِينٍ وَيَجُوزُ بِنَاؤُهَا عَلَى الضَّمِّ، وَصَوَّبَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَالْكِنْدِيُّ، وَصَوَّبَ ابْنُ دِحْيَةَ الْفَتْحَ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ مُرَكَّبَةٌ مِثْلُ شَذَرَ مَذَرَ، وَإِنْ وَرَدَ مَنْصُوبًا مُنَوَّنًا جَازَ وَمَعْنَاهُ لَمْ أَكُنْ فِي التَّقْرِيبِ وَالْإِدْلَالِ بِمَنْزِلَةِ الْحَبِيبِ. قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ كَلِمَةٌ تُقَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ، أَيْ لَسْتُ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ.
قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ لِي فِيهِ مَعْنًى مَلِيحٌ وَهُوَ أَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي أَعْطَيْتُهُ كَانَ بِسِفَارَةِ جِبْرِيلَ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَكَرَّرَ وَرَاءَ إِشَارَةً إِلَى نَبِيِّنَا ﷺ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنْ وَرَاءِ مُوسَى الَّذِي هُوَ مِنْ وَرَاءِ مُحَمَّدٍ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْحَقُّ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثَ إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ صُورَتُهَا صُورَةَ الْكَذِبِ أَشْفَقَ مِنْهَا اسْتِصْغَارًا لِنَفْسِهِ عَنِ الشَّفَاعَةِ مَعَ وُقُوعِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَأَقْرَبَ إِلَيْهِ مَنْزِلَةً كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا.
قَوْلُهُ: ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى، وَزَادَ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ وَفِي رِوَايَةِ مَعْبَدِ بْنِ هِلَالٍ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَهُوَ كَلِيمُ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَبْدًا أَعْطَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، زَادَ هَمَّامٌ فِي رِوَايَتِهِ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ الْمَقْرُونَةِ اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى.
قَوْلُهُ: فَيَأْتُونَهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ اشْفَعْ لَنَا فَذَكَرَ مِثْلَ آدَمَ قَوْلًا وَجَوَابًا، لَكِنَّهُ قَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا.
قَوْلُهُ: فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، زَادَ مُسْلِمٌ فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ قَتْلَ النَّفْسِ وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَإِنْ يُغْفَرْ لِي الْيَوْمَ حَسْبِي وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا وَذَكَرَ مِثْلَ مَا فِي آدَمَ.
قَوْلُهُ: ائْتُوا عِيسَى زَادَ مُسْلِمٌ رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ وَرُوحُهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ: فَإِنَّهُ كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى.
قَوْلُهُ: (فَيَأْتُونَهُ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ مِثْلَ آدَمَ قَوْلًا وَجَوَابًا لَكِنْ قَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا لَكِنْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: إِنِّي عُبِدْتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي اتُّخِذْتُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ وَإِنْ يُغْفَرْ لِيَ الْيَوْمَ حَسْبِي.
قَوْلُهُ: ائْتُوا مُحَمَّدًا ﷺ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: عَبْدٌ غُفِرَ لَهُ إِلَخْ زَادَ ثَابِتٌ مِنْ ذَنْبِهِ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَفِي رِوَايَةِ مُعْتَمِرٍ انْطَلِقُوا إِلَى مَنْ جَاءَ الْيَوْمَ مَغْفُورًا لَهُ، لَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ، وَفِي رِوَايَةِ ثَابِتٍ أَيْضًا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ قَدْ حَضَرَ الْيَوْمَ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ مَتَاعٌ فِي وِعَاءٍ قَدْ خُتِمَ عَلَيْهِ، أَكَانَ يُقْدَرُ عَلَى مَا فِي الْوِعَاءِ حَتَّى يُفَضَّ الْخَاتَمُ، وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى آدَمَ فَيَقُولُ: أَرَأَيْتُمْ إِلَخْ وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَلَكِنِ انْطَلِقُوا إِلَى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ قَالَ عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ فَقِيلَ: الْمُتَقَدِّمُ مَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَالْمُتَأَخِّرُ الْعِصْمَةُ، وَقِيلَ: مَا وَقَعَ عَنْ سَهْوٍ أَوْ تَأْوِيلٍ. وَقِيلَ: الْمُتَقَدِّمُ ذَنْبُ آدَمَ، وَالْمُتَأَخِّرُ ذَنْبُ أُمَّتِهِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ لَوْ وَقَعَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَاللَّائِقُ بِهَذَا الْمَقَامِ الْقَوْلُ الرَّابِعُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَا يَتَأَتَّى هُنَا، وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ عِيسَى فِي حَقِّ نَبِيِّنَا هَذَا، وَمِنْ قَوْلِ مُوسَى