للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا كَانَ يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا جَهْلًا مِنْهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا حُشِرُوا مَعَهُمْ، لِمَا كَانُوا يُظْهَرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ حَتَّى مَيَّزَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَنْ كَانَتْ تَعْبُدُ، وَالْمُنَافِقُ لَمْ يَكُنْ يَعْبُدُ شَيْئًا بَقِيَ حَائِرًا حَتَّى مُيِّزَ، قُلْتُ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ ذَلِكَ بِمُنَافِقٍ كَانَ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا، وَأَكْثَرُ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ وَثَنٍ وَغَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ) فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ: فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَفِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ: ثُمَّ يَتَبَدَّى لَنَا اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَيْنَاهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ: وَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّنَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هُنَا: فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، وَرَجَّحَ عِيَاضٌ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الضَّمِيرُ لِلَّهِ، وَالْمَعْنَى: فَارَقْنَا النَّاسَ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ أَحْوَجُ لِرَبِّنَا، أَيْ: إِنَّا مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: بَلْ أَحْوَجُ عَلَى بَابِهَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَحْوَجُ إِلَيْهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْكَارُهُ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ مُعْتَرَضٌ، بَلْ مَعْنَاهُ: التَّضَرُّعُ إِلَى اللَّهِ فِي كَشْفِ الشِّدَّةِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَزِمُوا طَاعَتَهُ، وَفَارَقُوا فِي الدُّنْيَا مَنْ زَاغَ عَنْ طَاعَتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِمْ، مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ، كَمَا جَرَى لِمُؤْمِنِي الصَّحَابَةِ حِينَ قَاطَعُوا مِنْ أَقَارِبِهِمْ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ وَالِارْتِفَاقِ بِهِمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا شَكَّ فِي حُسْنِهِ، وَأَمَّا نِسْبَةُ الْإِتْيَانِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ كُلَّ مَنْ غَابَ عَنْ غَيْرِهِ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ إِلَّا بِالْمَجِيءِ إِلَيْهِ، فَعَبَّرَ عَنِ الرُّؤْيَةِ بِالْإِتْيَانِ مَجَازًا، وَقِيلَ: الْإِتْيَانُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ - تَعَالَى - يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: يَأْتِيهِمْ بَعْضُ مَلَائِكَةِ اللَّهِ، وَرَجَّحَهُ عِيَاضٌ، قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا الْمَلَكَ جَاءَهُمْ فِي صُورَةٍ أَنْكَرُوهَا لَمَّا رَأَوْا فِيهَا مِنْ سِمَةِ الْحُدُوثِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْمَلَكِ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا رَابِعًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى يَأْتِيهِمُ اللَّهُ بِصُورَةٍ - أَيْ بِصِفَةٍ - تَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ الصُّوَرِ الْمَخْلُوقَةِ الَّتِي لَا تُشْبِهُ صِفَةَ الْإِلَهِ؛ لِيَخْتَبِرَهُمْ بِذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ لَهُمْ هَذَا الْمَلَكُ: أَنَا رَبُّكُمْ وَرَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَةِ الْمَخْلُوقِينَ مَا يَعْلَمُونَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ رَبَّهُمُ اسْتَعَاذُوا مِنْهُ لِذَلِكَ.

انْتَهَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا: فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ يُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الصِّفَةُ، وَالْمَعْنَى فَيَتَجَلَّى اللَّهُ لَهُمْ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَعْلَمُونَهُ بِهَا، وَإِنَّمَا عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَقَدَّمَتْ لَهُمْ رُؤْيَتُهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ حِينَئِذٍ شَيْئًا لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، وَعَبَّرَ عَنِ الصِّفَةِ بِالصُّورَةِ لِمُجَانَسَةِ الْكَلَامِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الصُّورَةِ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ صَدَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ بِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي صَحِيحٌ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ مُصَرِّحٌ بِهِ أَوْ ظَاهِرٌ فِيهِ. انْتَهَى.

وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ وَقَالَ: إِنَّهُ مِنَ الِامْتِحَانِ الثَّانِي يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ يَنْقَلِبُ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا اسْتَعَاذُوا مِنْهُ أَوَّلًا لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ اسْتِدْرَاجٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَمِنَ الْفَحْشَاءِ اتِّبَاعُ الْبَاطِلِ وَأَهْلِهِ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ: فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَةٍ - أَيْ بِصُورَةٍ - لَا يَعْرِفُونَهَا، وَهِيَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ أَهْلِ الْبَاطِلِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: إِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، أَيْ إِذَا جَاءَنَا بِمَا عَهِدْنَاهُ مِنْهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَعْنَى الْخَبَرِ: يَأْتِيهِمُ اللَّهُ بِأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ صُوَرِ الْمَلَائِكَةِ بِمَا لَمْ يَعْهَدُوا مِثْلَهُ فِي الدُّنْيَا فَيَسْتَعِيذُونَ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ وَيَقُولُونَ: