أَنَّ تَقْوِيلَهُ ﷺ مَا لَمْ يَقُلْ يَقْتَضِي الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْإِيجَابِ أَوِ النَّدْبِ، وَكَذَا مُقَابِلُهُمَا وَهُوَ الْحَرَامُ وَالْمَكْرُوهُ. وَلَا يُعْتَدُّ بِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنَ الْكَرَامِيَّةِ حَيْثُ جَوَّزُوا وَضْعَ الْكَذِبِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِي تَثْبِيتِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَاحْتَجّ بِأَنَّهُ كَذِبَ لَهُ لَا عَلَيْهِ، وَهُوَ جَهْلٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ مِنْ زِيَادَةٍ لَمْ تَثْبُتْ وَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ لِيُضِلَّ بِهِ النَّاسَ الْحَدِيثَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ إِرْسَالَهُ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَيْسَتِ اللَّامُ فِيهِ لِلْعِلَّةِ بَلْ لِلصَّيْرُورَةِ كَمَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ﴾ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَآلَ أَمْرِهِ إِلَى الْإِضْلَالِ، أَوْ هُوَ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ بِالذِّكْرِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ - ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ﴾ فَإِنَّ قَتْلَ الْأَوْلَادِ وَمُضَاعَفَةَ الرِّبَا وَالْإِضْلَالَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ فِيهَا لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: (فَلْيَلِجِ النَّارَ) جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْوُلُوجِ مُسَبَّبًا عَنِ الْكَذِبِ ; لِأَنَّ لَازِمَ الْأَمْرِ الْإِلْزَامُ، وَالْإِلْزَامُ بِوُلُوجِ النَّارِ سَبَبُهُ الْكَذِبُ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ: مَنْ يَكْذِبُ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: الْكَذِبُ عَلَيَّ يُولِجُ - أَيْ: يُدْخِلُ - النَّارَ.
١٠٧ - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ) هُوَ الطَّيَالِسِيُّ وَ (جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ) كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ. وَفِي الْإِسْنَادِ لَطِيفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ، يَرْوِيهِ صَحَابِيٌّ عَنْ صَحَابِيٍّ. ثَانِيهُمَا: أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ بِخُصُوصِ رِوَايَةِ الْأَبِ عَنِ الْجَدِّ، وَقَدْ أُفْرِدَتْ بِالتَّصْنِيفِ.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ) أَيِ: ابْنِ الْعَوَّامِ.
قَوْلُهُ: (تُحَدِّثُ) حَذَفَ مَفْعُولَهَا لِيَشْمَلَ قَوْلَهُ: (كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ) سُمِّيَ مِنْهُمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ.
قَوْلُهُ: (أَمَا) بِالْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ وَهِيَ مِنْ حُرُوفِ التَّنْبِيهِ وَ (إِنِّي) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (لَمْ أُفَارِقْهُ) أَيْ: لَمْ أُفَارِقْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَالْمُرَادُ فِي الْأَغْلَبِ وَإِلَّا فَقَدْ هَاجَرَ الزُّبَيْرُ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَالِ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْجِيهِ لِلسُّؤَالِ ; لِأَنَّ لَازِمَ الْمُلَازَمَةِ السَّمَاعُ، وَلَازِمُهُ إعَادَةُ التَّحْدِيثِ، لَكِنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا خَشِيَهُ مِنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَلِهَذَا أَتَى بِقَوْلِهِ: لَكِنْ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي كِتَابِ النَّسَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: عَنَانِي ذَلِكَ يَعْنِي قِلَّةَ رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ: فَسَأَلْتُهُ أَيْ: عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْقَرَابَةِ وَالرَّحِمِ مَا عَلِمْتَ، وَعَمَّتُهُ أُمِّي، وَزَوْجَتُهُ خَدِيجَةُ عَمَّتِي، وَأُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ، وَجَدَّتِي هَالَةُ بِنْتُ وُهَيْبٍ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وَعِنْدِي أُمُّكَ، وَأُخْتُهَا عَائِشَةُ عِنْدَهُ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ.
قَوْلُهُ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ) كَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ لَيْسَ فِيهِ مُتَعَمِّدًا وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ الْمَذْكُورَةِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ وَزَادَ فِيهِ مُتَعَمِّدًا وَكَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute