وَغَيْرِهِمَا فَلَمْ يُصَدِّرْ شَيْئًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ جَوَازَ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ فَحَدَّثَ بِهِمَا جَمِيعًا كَمَا سَمِعَهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَادِيثَ فِي أَوَائِلِهِمَا ذَكَرَهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي سَمِعَهُ. قُلْتُ: وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ الْوُضُوءِ وَفِي أَوَائِلِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ لَأَنْ يَلِجَّ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَهِيَ اللَّامُ الْمُؤَكِّدَةُ لِلْقَسَمِ، وَيَلِجَّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا بَعْدَهَا جِيمٌ مِنَ اللَّجَاجِ، وَهُوَ أَنْ يَتَمَادَى فِي الْأَمْرِ وَلَوْ تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ، وَأَصْلُ اللَّجَاجِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا، يُقَالُ: لَجِجْتُ أَلَجُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ.
قَوْلُهُ: أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ سَقَطَ قَوْلُهُ: فِي أَهْلِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْمَعْمَرِيِّ، عَنْ مَعْمَرٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ.
قَوْلُهُ: (آثَمُ) بِالْمَدِّ أَيْ أَشَدُّ إِثْمًا.
قَوْلُهُ: (مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا تَتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ بِحَيْثُ يَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ حِنْثِهِ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ فَيَفْعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَا أَحْنَثُ بَلْ أَتَوَرَّعُ عَنِ ارْتِكَابِ الْحِنْثِ خَشْيَةَ الْإِثْمِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بِهَذَا الْقَوْلِ، بَلِ اسْتِمْرَارُهُ عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ وَإِقَامَةِ الضَّرَرِ لِأَهْلِهِ أَكْثَرُ إِثْمًا مِنَ الْحِنْثِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَنْزِيلِهِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحِنْثُ لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: آثَمُ بِصِيغَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فَهُوَ لِقَصْدِ مُقَابَلَةِ اللَّفْظِ عَلَى زَعْمِ الْحَالِفِ أَوْ تَوَهُّمِهِ فَإِنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمًا فِي الْحِنْثِ مَعَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: الْإِثْمُ فِي اللَّجَاجِ أَكْثَرُ مِنَ الْإِثْمِ فِي الْحِنْثِ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ كَانَ أَدْخَلَ فِي الْوِزْرِ، وَأَفْضَى إِلَى الْإِثْمِ مِنَ الْحِنْثِ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ عُرْضَةً لِيَمِينِهِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: وَآثَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ وَأَصْلُهُ أَنْ يُطْلَقَ لِلَّاجِ فِي الْإِثْمِ، فَأُطْلِقَ لِمَنْ يَلِجُّ فِي مُوجِبِ الْإِثْمِ اتِّسَاعًا قَالَ: وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنَ الْحِنْثِ خَشْيَةَ الْإِثْمِ وَيَرَى ذَلِكَ، فَاللَّجَاجُ أَيْضًا إِثْمٌ عَلَى زَعْمِهِ وَحُسْبَانِهِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ تَخْرُجَ أَفْعَلُ عَنْ بَابِهَا كَقَوْلِهِمُ الصَّيْفُ أَحَرُّ مِنَ الشِّتَاءِ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِثْمَ فِي اللَّجَاجِ فِي بَابِهِ أَبْلَغُ مِنْ ثَوَابِ إِعْطَاءِ الْكَفَّارَةِ فِي بَابِهِ، قَالَ: وَفَائِدَةُ ذِكْرِ أَهْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلْمُبَالَغَةِ وَهِيَ مَزِيدُ الشَّفَاعَةِ لِاسْتِهْجَانِ اللَّجَاجِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَهْلِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِهِمْ مُسْتَهْجَنًا فَفِي حَقِّهِمْ أَشَدَّ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحَانِثِ فَرْضٌ قَالَ: وَمَعْنَى يَلِجُّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى تَرْكِ الْكَفَّارَةِ كَذَا قَالَ، وَالصَّوَابُ عَلَى تَرْكِ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَقَعُ التَّمَادِي عَلَى حُكْمِ الْيَمِينِ، وَبِهِ يَقَعُ الضَّرَرُ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) جَزَمَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ بِأَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَصَنِيعُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ، وَيَحْيَى بْنُ صَالِحٍ هُوَ الْوُحَاظِيُّ بِتَخْفِيفِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ الْأَلِفِ ظَاءٌ مُشَالَةٌ مُعْجَمَةٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ بِلَا وَاسِطَةٍ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَبِوَاسِطَةٍ فِي الْحَجِّ، وَشَيْخُهُ مُعَاوِيَةُ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَيَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَعِكْرِمَةُ هُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا أَسْنَدَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، وَخَالَفَهُ مَعْمَرٌ فَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، فَأَرْسَلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ لَكِنَّهُ سَاقَهُ بِلَفْظِ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ مَعْمَرٍ، وَإِذَا كَانَ لَمْ يَضْبِطِ الْمَتْنَ فَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَضْبِطِ الْإِسْنَادَ.
قَوْلُهُ: (مَنِ اسْتَلَجَّ) اسْتَفْعَلَ مِنَ اللَّجَاجِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ اسْتَلْجَجَ بِإِظْهَارِ الْإِدْغَامِ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ.