عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَعَ اسْتِحْضَارِهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ. وَظَهَرَ لِطَائِفَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُكْتَبَ لِمَا فِيهِ مِنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيضَاحِ، وَدَلَّ أَمْرُهُ لَهُمَ بِالْقِيَامِ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ الْأَوَّلَ كَانَ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَلِهَذَا عَاشَ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا وَلَمْ يُعَاوِدْ أَمْرَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَتْرُكْهُ لِاخْتِلَافِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ التَّبْلِيغَ لِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُرَاجِعُونَهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَا لَمْ يَجْزِمْ بِالْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمَ امْتَثَلُوا. وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ عُدَّ هَذَا مِنْ مُوَافَقَةِ عُمَرَ ﵁. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ، فَقِيلَ: كَانَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا يَنُصُّ فِيهِ عَلَى الْأَحْكَامِ لِيَرْتَفِعَ الِاخْتِلَافُ، وَقِيلَ: بَلْ أَرَادَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَسَامِي الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ، قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ.
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ ﷺ قَالَ فِي أَوَائِلِ مَرَضِهِ وَهُوَ عِنْدَ عَائِشَةَ: ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَلِلْمُصَنِّفِ مَعْنَاهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكْتُبْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِ عُمَرَ: كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا. أَيْ: كَافِينَا. مَعَ أَنَّهُ يَشْمَلُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا ذَهَبَ عُمَرُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ نَصَّ بِمَا يُزِيلُ الْخِلَافِ لَبَطَلَتْ فَضِيلَةُ الْعُلَمَاءِ وَعُدِمَ الِاجْتِهَادُ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى شَيْءٍ أَوْ أَشْيَاءَ لَمْ يَبْطُلِ الِاجْتِهَادُ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا. قَالَ: وَإِنَّمَا خَافَ عُمَرُ أَنْ يَكُونَ مَا يَكْتُبُهُ فِي حَالَةِ غَلَبَةِ الْمَرَضِ فَيَجِدُ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ سَبِيلًا إِلَى الطَّعْنِ فِي ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ، وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُهُ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِيَ التَّنَازُعُ) فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَوْلَى كَانَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ مَا اخْتَارَهُ عُمَرُ صَوَابًا إِذْ لَمْ يَتَدَارَكْ ذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا، وَتَمَسَّكَ آخَرُونَ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ فَلَمْ يُصَلُّوا، فَمَا عَنَّفَ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنْ أَجْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُسَوِّغِ وَالْمَقْصِدِ الصَّالِحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ) ظَاهِرُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ مَعَهُمْ، وَأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ خَرَجَ قَائِلًا هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي الْوَاقِعِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الظَّاهِرُ، بَلْ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُهُ عِنْدَمَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ فِي الِاعْتِصَامِ وَغَيْرِهِ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ. وَكَذَا لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ. وَجَزَمَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضِيِّ بِمَا قُلْتُهُ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَحَادِيثِ يَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي مَكَانِهِ اللَّائِقِ بِهِ، إِلَّا حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَو فَهُوَ عُمْدَةُ الْبَابِ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا حَدَّثَ عُبَيْدَ اللَّهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ خَرَجَ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ بِهِ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَسَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ. . . إِلَخْ. وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ تَابِعِيٌّ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُدْرِكِ الْقِصَّةَ فِي وَقْتِهَا؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ سَمِعَهَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ أُخْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (الرَّزِيئَةُ) هِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا يَاءٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ، وَقَدْ تُسَهَّلُ الْهَمْزَةُ وَتُشَدَّدُ الْيَاءُ، وَمَعْنَاهَا الْمُصِيبَةُ، وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ أَيْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ سَبَبًا لِتَرْكِ كِتَابَةِ الْكِتَابِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ، وَعَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي حِرْمَانِ الْخَيْرِ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَخَاصَمَا فَرُفِعَ تَعْيِينُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَفِيهِ وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ فِيهِ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي أَوَاخِرِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute