وَغَيْرِ خَالِصِ النِّيَّةِ فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ. قَالَ: وَهَذَا أَحَدُ مُحْتَمَلَاتِ قَوْلِهِ: لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، أَيْ: إِنَّ عُقْبَاهُ لَا تُحْمَدُ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِخَيْرٍ لَمْ يُقَدَّرْ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَبِهَذَا الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ صَدَّرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ كَلَامَهُ فَقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَأْتِي بِسَبَبِ خَيْرٍ فِي نَفْسِ النَّاذِرِ وَطَبْعِهِ فِي طَلَبِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَيْرٌ وَهُوَ فِعْلُ الطَّاعَةِ الَّتِي نَذَرَهَا، لَكِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْخَيْرِ حُصُولُ غَرَضِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، أَنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ كَمَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَاتُ الْأُخْرَى.
(تَنْبِيهٌ): قَوْلُهُ: لَا يَأْتِي، كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا يَأْتِ بِغَيْرِ يَاءٍ وَلَيْسَ بِلَحْنٍ ; لِأَنَّهُ قَدْ سُمِعَ نَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْأَعْلَامِ: هَذَا بَابٌ مِنَ الْعِلْمِ غَرِيبٌ، وَهُوَ أَنْ يُنْهَى عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فُعِلَ كَانَ وَاجِبًا، وَقَدْ ذَكَرَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ - وَنَقَلَهُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ النَّذْرَ مَكْرُوهٌ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَجَزَمَ بِهِ عَنْهُمُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَأَشَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى الْخِلَافِ عَنْهُمْ وَالْجَزْمِ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ بِالْكَرَاهَةِ، قَالَ: وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ طَاعَةً مَحْضَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ خَالِصُ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يَنْفَعَ نَفْسَهُ أَوْ يَدْفَعَ عَنْهَا ضَرَرًا بِمَا الْتَزَمَهُ وَجَزَمَ الْحَنَابِلَةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ فِي أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي صِحَّتِهَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ تَرْجَمَ كَرَاهَةَ النَّذْرِ وَأَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَغَيْرِهِمْ، كَرِهُوا النَّذْرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَعْنَى الْكَرَاهَةِ فِي النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ وَفِي الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ نَذَرَ الرَّجُلُ فِي الطَّاعَةِ فَوَفَّى بِهِ فَلَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَيُكْرَهُ لَهُ النَّذْرُ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَفِيهِ إِشْكَالٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّ الْوَسِيلَةَ إِلَى الطَّاعَةِ طَاعَةٌ، كَمَا أَنَّ الْوَسِيلَةَ إِلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وَالنَّذْرُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً إِلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى الْكَرَاهَةِ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَذْرِ الْمُجَازَاةِ، فَحَمَلَ النَّهْيَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ نَذْرِ الِابْتِدَاءِ فَهُوَ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ: الْقِيَاسُ اسْتِحْبَابُهُ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، كَذَا قَالَ، وَنُوزِعَ بِأَنَّ خِلَافَ الْأَوْلَى مَا انْدَرَجَ فِي عُمُومِ نَهْيٍ، وَالْمَكْرُوهُ مَا نُهِيَ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ النَّذْرِ بِخُصُوصِهِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا، وَإِنِّي لَأَتَعَجَّبُ مِمَّنِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ مَعَ ثُبُوتِ الصَّرِيحِ عَنْهُ فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَمِمَّنْ بَنَى عَلَى اسْتِحْبَابِهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنَّذْرِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا؛ لِأَنَّهَا مُنَاجَاةٌ لِلَّهِ فَأَشْبَهَ الدُّعَاءَ، اهـ.
وَإِذَا ثَبَتَ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ مُطْلَقًا فَتَرْكُ فِعْلِهِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَوْلَى فَكَيْفَ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ هَؤُلَاءِ نَذْرُ التَّبَرُّرِ الْمَحْضِ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا أَوْ لَأَفْعَلَنَّهُ عَلَى الْمُجَازَاةِ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ عَلَى مَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ عَدَمُ الْقِيَامِ بِمَا الْتَزَمَهُ، حَكَاهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ، وَلِمَا نَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ كَرَاهَةَ النَّذْرِ وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الْمُتَوَلِّي بَعْدَهُ وَالْغَزَالِيِّ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَى مَنْ وَفَّى بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْقُرْبَةِ فَيَكُونُ قُرْبَةً، قَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَسَّطَ فَيُقَالُ: الَّذِي دَلَّ الْخَبَرُ عَلَى كَرَاهَتِهِ نَذْرُ الْمُجَازَاةِ، وَأَمَّا نَذْرُ التَّبَرُّرِ فَهُوَ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ ; لِأَنَّ لِلنَّاذِرِ فِيهِ غَرَضًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنْ يُثَابَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، وَهُوَ فَوْقَ ثَوَابِ التَّطَوُّعِ، اهـ.
وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بِحَمْلِ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَلَى نَذْرِ الْمُجَازَاةِ، فَقَالَ: هَذَا النَّهْيُ مَحَلُّهُ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ فِعْلَ الْقُرْبَةِ الْمَذْكُورَ عَلَى حُصُولِ الْغَرَضِ الْمَذْكُورِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ لَهُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لِمَا صَدَرَ مِنْهُ، بَلْ سَلَكَ فِيهَا مَسْلَكَ الْمُعَارضَةِ، وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْفِ مَرِيضَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِمَا عَلَّقَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute