قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالنُّسُكُ شَاةٌ وَالْمَسَاكِينُ سِتَّةٌ.
قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، كِتَابُ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ) فِي رِوَايَةِ غَيْرِ أَبِي ذَرٍّ: بَابُ، وَلَهُ عَنِ الْمُسْتَمْلِي: كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ، وَسُمِّيَتْ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُكَفِّرُ الذَّنْبَ، أَيْ: تَسْتُرُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلزَّارِعِ كَافِرٌ ; لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْبَذْرَ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْكَفَّارَةُ مَا يُعْطِي الْحَانِثُ فِي الْيَمِينِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَهُوَ مِنَ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ سَتْرُ الْفِعْلِ وَتَغْطِيَتُهُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يُعْمَلْ، قَالَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ إِزَالَةَ الْكُفْرِ نَحْوَ التَّمْرِيضِ فِي إِزَالَةِ الْمَرَضِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أَيْ: أَزَلْنَاهَا، وَأَصْلُ الْكُفْرِ السَّتْرُ، يُقَالُ: كَفَرَتِ الشَّمْسُ النُّجُومَ: سَتَرَتْهَا، وَيُسَمَّى السَّحَابُ الَّذِي يَسْتُرُ الشَّمْسَ كَافِرًا، وَيُسَمَّى اللَّيْلُ كَافِرًا ; لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ عَنِ الْعُيُونِ، وَتَكَفَّرَ الرَّجُلُ بِالسِّلَاحِ إِذَا تَسَتَّرَ بِهِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ يُرِيدُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ: بِتَعَيُّنِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَوْ أَعْطَى مَا يَجِبُ لِلْعَشَرَةِ وَاحِدًا كَفَى، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَلِمَنْ قَالَ كَذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَنِ الثَّوْرِيِّ مِثْلُهُ، لَكِنْ قَالَ: إِنْ لَمْ يَجِدِ الْعَشَرَةَ.
قَوْلُهُ: (وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ نَزَلَتْ: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْمَوْصُولِ فِي الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ ﷺ كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ) يَعْنِي كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ.
قَوْلُهُ: (وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَوْ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ) أَمَّا أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْ نَحْوُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ فَهُوَ فِيهِ مُخَيَّرٌ، وَمَا كَانَ: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ فَهُوَ عَلَى الْوَلَاءِ، أَيْ: عَلَى التَّرْتِيبِ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ قَوْلِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا أَثَرُ عَطَاءٍ فَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَوْ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُ شَاءَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ نَحْوَهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ بِلَفْظِ الْأَصْلِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا.
وَأَمَّا أَثَرُ عِكْرِمَةَ فَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَوْ فَلْيَتَخَيَّرْ، أَيَّ: الْكَفَّارَاتِ شَاءَ، فَإِذَا كَانَ: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ فَالْأَوَّلَ الْأَوَّلَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْإِطْعَامِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ بِمُدِّ الشَّارِعِ ﷺ وَفَرَّقَ مَالِكٌ فِي جِنْسِ الطَّعَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَاعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ ; لِأَنَّهُ وَسَطٌ مِنْ عَيْشِهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْصَارِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمْ مَا هُوَ وَسَطٌ مِنْ عَيْشِهِ وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِطْعَامُ نِصْفِ صَاعٍ، وَالْحُجَّةُ لِلْأَوَّلِ أَنَّهُ ﷺ أَمَرَ فِي كَفَّارَةِ الْمُوَاقِعِ فِي رَمَضَانَ بِإِطْعَامِ مُدٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ كَعْبٍ هُنَا مِنْ أَجْلِ آيَةِ التَّخْيِيرِ فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَمَا وَرَدَتْ فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، فَقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ وَافَقَ الْكُوفِيِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَوْرَدَ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّنْصِيصُ فِي خَبَرِ كَعْبٍ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي قَدْرِ طَعَامِ الْكَفَّارَةِ فَحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
قُلْتُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute