فَتَرَكْتُهَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَأْوِيلِهِ بِالْمُسْتَحِلِّ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّغِيرِ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ رَاوٍ كَذَّبُوهُ، فَمِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَاقِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ وَالْمَعْنَى: لَا يَزْنِيَنَّ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقَنَّ مُؤْمِنٌ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ بَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ وَلَا يَشْرَبِ بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، وَالْمَعْنَى الْمُؤْمِنُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لِلتَّقْيِيدِ بِالظَّرْفِ فَائِدَةٌ؛ فَإِنَّ الزِّنَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا الرَّدِّ نَظَرٌ وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بِذَلِكَ مُنَافِقًا نِفَاقَ مَعْصِيَةٍ لَا نِفَاقَ كُفْرٍ حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَقَدْ مَضَى تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَوَّلَ الْكِتَابِ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ مَعْنَى نَفْيِ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا أَنَّهُ شَابَهَ الْكَافِرَ فِي عَمَلِهِ، وَمَوْقِعُ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي جَوَازِ قِتَالِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَكُفَّ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قُتِلَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا فَانْتَفَتْ فَائِدَةُ الْإِيمَانِ فِي حَقِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَوَالِ عِصْمَتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَهَذَا يُقَوِّي مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْيِيدِ بِحَالَةِ التَّلَبُّسِ بِالْمَعْصِيَةِ.
رَابِعُهَا: مَعْنَى قَوْلِهِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ أَيْ لَيْسَ بِمُسْتَحْضِرٍ فِي حَالَةِ تَلَبُّسِهِ بِالْكَبِيرَةِ جَلَالَ مَنْ آمَنَ بِهِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَفْلَةِ الَّتِي جَلَبَتْهَا لَهُ غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ، وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ تُذْهِلُهُ عَنْ مُرَاعَاةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ، فَكَأَنَّهُ نَسِيَ مَنْ صَدَّقَ بِهِ، قَالَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ نَزْعِ نُورِ الْإِيمَانِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُهَلَّبِ.
خَامِسُهَا: مَعْنَى نَفْيِ الْإِيمَانِ نَفْيُ الْأَمَانِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَمْنِ.
سَادِسُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّنْفِيرُ وَلَا يُرَادُ ظَاهِرُهُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِحَالِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا.
سَابِعُهَا: أَنَّهُ يَسْلُبُ الْإِيمَانَ حَالَةَ تَلَبُّسِهِ بالْكَبِيرَةَ فَإِذَا فَارَقَهَا عَادَ إِلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مَا أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ إِثْمِ الزِّنَا مِنْ كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ بِنَحْوِ حَدِيثِ الْبَابِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ يُنْزَعُ مِنْهُ الْإِيمَانُ؟ قَالَ: هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، فَإِذَا تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وَجَاءَ مِثْلُ هَذَا مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: إِذَا زَنَى الرَّجُلُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ، فَإِذَا أَقْلَعَ رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ حُجَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ الْإِيمَانَ كَمَا يَخْلَعُ الْإِنْسَانُ الْقَمِيصَ مِنْ رَأْسِهِ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يُسَمَّ رَفَعَهُ: مَنْ زَنَى خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: مَثَلُ الْإِيمَانِ مَثَلُ قَمِيصٍ بَيْنَمَا أَنْتَ مُدْبِرٌ عَنْهُ إِذْ لَبِسْتَهُ، وَبَيْنَمَا أَنْتَ قَدْ لَبِسْتَهُ إِذْ نَزَعْتَهُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، غَيْرَ أَنَّ لِلتَّصْدِيقِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلٌ وَالْآخَرُ عَمَلٌ، فَإِذَا رَكِبَ الْمُصَدِّقُ كَبِيرَةً فَارَقَهُ اسْمُ الْإِيمَانُ، فَإِذَا كَفَّ عَنْهَا عَادَ لَهُ الِاسْمُ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ كَفِّهِ عَنِ الْكَبِيرَةِ مُجْتَنِبٌ بِلِسَانِهِ وَلِسَانُهُ مُصَدِّقٌ عَقْدَ قَلْبِهِ وَذَلِكَ مَعْنَى الْإِيمَانِ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ يُلَاقِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ نُورُ الْإِيمَانِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فَائِدَةِ التَّصْدِيقِ وَثَمَرَتِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَيُمْكِنُ رَدُّ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي آخِرِ كَلَامِهِ تَبَعًا لِلطَّبَرِيِّ: الصَّوَابُ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَدْحِ إِلَى الِاسْمِ الَّذِي بِمَعْنَى الذَّمِّ فَيُقَالُ