للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَلَمْ يَطَّلِعْ أَكْثَرُهُمْ عَلَى تَعْيِينِهِ صَرِيحًا مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ فِيهِ الْحَدَّ الْمُعَيَّنَ، وَمِنْ ثَمَّ تَوَخَّى أَبُو بَكْرٍ مَا فُعِلَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، ثُمَّ رَأَى عُمَرُ وَمَنْ وَافَقَهُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إِمَّا حَدًّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ وَإِمَّا تَعْزِيرًا.

قُلْتُ: وَبَقِيَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِنْ شَرِبَ فَحُدَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ شَرِبَ قُتِلَ فِي الرَّابِعَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي الْخَامِسَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُخَرَّجٌ فِي السُّنَنِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ أَسَانِيدُهَا قَوِيَّةٌ، وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَرْكِ الْقَتْلِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ بَعُدَ مِنْ نَقْلِ غَيْرِهِ عَنْهُ الْقَوْلُ بِهِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: هو قَوْلٍ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهِ مَنْسُوخٌ إِمَّا بِحَدِيثِ: لَا يَحِلُّ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، وَإِمَّا بأَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلَّ عَلَى نَسْخِهِ.

قُلْتُ: بَلْ دَلِيلُ النَّسْخِ مَنْصُوصٌ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ قَدْ شَرِبَ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ، فَرَفَعَ الْقَتْلَ وَكَانَتْ رُخْصَةً، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ.

وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ حَدَّهُ ثَمَانُونَ بِالْإِجْمَاعِ فِي عَهْدِ عُمَرَ حَيْثُ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ كِبَارُ الصَّحَابَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ عَلِيًّا أَشَارَ عَلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّهَا الْقَدْرُ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ مُسْتَنِدِينَ إِلَى تَقْدِيرِ مَا فُعِلَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ ، وَأَمَّا الَّذِي أَشَارَ بِهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ سِيَاقِ قِصَّتِهِ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ رَدْعًا لِلَّذِينَ انْهَمَكُوا لِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمُ احْتَقَرُوا الْعُقُوبَةَ وَبِهَذَا تَمَسَّكَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: أَقَلُّ مَا فِي حَدِّ الْخَمْرِ أَرْبَعُونَ وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ إِلَى الثَّمَانِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ وَلَا يُجَاوِزُ الثَّمَانِينَ، وَاسْتَنَدُوا إِلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، فَرَأَى عُمَرُ فِعْلَهُ بِمُوَافَقَةِ عَلِيٍّ، ثُمَّ رَجَعَ عَلِيٌّ وَوَقَفَ عِنْدَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَوَافَقَهُ عُثْمَانُ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ: وَكُلٌّ سُنَّةٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ سُنَّةُ النَّبِيِّ فَصَارَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، وَالْوُصُولُ إِلَى الثَّمَانِينَ سُنَّةُ عُمَرَ رَدْعًا لِلشَّارِبِينَ الَّذِينَ احْتَقَرُوا الْعُقُوبَةَ الْأُولَى وَوَافَقَهُ مَنْ ذُكِرَ فِي زَمَانِهِ لِلْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ، وَسَوَّغَ لَهُمْ ذَلِكَ إِمَّا اعْتِقَادُهُمْ جَوَازَ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَجْعَلُ الْجَمِيعَ حَدًّا، وَإِمَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا الزِّيَادَةَ تَعْزِيرًا بِنَاءً عَلَى جَوَازِ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ قَدْرَ الْحَدِّ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ الْخَبَرُ الْآتِي فِي بَابِ التَّعْزِيرِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِذَلِكَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَادَّعَى إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ دَعْوَى ضَعِيفَةٌ لِقِيَامِ الِاحْتِمَالِ.

وَقَدْ شَنَّعَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدْخُلُ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ، مَعَ جَزْمِ الطَّحَاوِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْهُمْ بِأَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ وَقَعَ بِالْقِيَاسِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَبِهِ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ شُرِعَتْ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، وَقَدْ تَشْتَرِكُ أَشْيَاءُ مُخْتَلِفَةٌ وَتَخْتَلِفُ أَشْيَاءُ مُتَسَاوِيَةٌ فَلَا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلَّا بِالنَّصِّ، وَأَجَابُوا عَمَّا وَقَعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ جَلَدَ قَدْرَ حَدِّ الْقَذْفِ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ الْجَمِيعَ حَدًّا بَلِ الَّذِي فَعَلُوهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ حَدَّ فِيهِ أَرْبَعِينَ؛ إِذْ لَوْ بَلَغَهُمْ لَمَا جَاوَزُوهُ كَمَا لَمْ يُجَاوِزُوا غَيْرَهُ مِنَ الْحُدُودِ الْمَنْصُوصَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنَ النَّصِّ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ فَرُجِّحَ أَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ تَعْزِيرًا.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي رَافِعِ عن عُمَرَ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَارِبٍ فَقَالَ لِمُطِيعِ بْنِ الْأَسْوَدِ: إِذَا أَصْبَحْتَ غَدًا فَاضْرِبْهُ، فَجَاءَ عُمَرُ فَوَجَدَهُ يَضْرِبهُ ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ: كَمْ ضَرَبْتَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ، قَالَ: اقْتَصَّ عَنْهُ بِعِشْرِينَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي اجْعَلْ شِدَّةَ ضَرْبِكَ لَهُ قِصَاصًا بِالْعِشْرِينَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنَ الثَّمَانِينَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ ضَرْبَ الشَّارِبِ لَا يَكُونُ شَدِيدًا وَأَنْ لَا يُضْرَبَ فِي حَالِ السُّكْرِ لِقَوْلِهِ: إِذَا