للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ فَقَالَ: لَيْسَ الَّذِي طَعَنَ بِهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَى تَأْوِيلِ الْخَبَرِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْبَيْضَةَ مِنَ السِّلَاحِ لَيْسَتْ عَلَمًا فِي كَثْرَةِ الثَّمَنِ وَنِهَايَةً فِي غُلُوِّ الْقِيمَةِ فَتَجْرِي مَجْرَى الْعِقْدِ مِنَ الْجَوْهَرِ وَالْجِرَابِ مِنَ الْمِسْكِ اللَّذَيْنِ رُبَّمَا يُسَاوِيَانِ الْأُلُوفَ مِنَ الدَّنَانِيرِ، بَلِ الْبَيْضَةُ مِنَ الْحَدِيدِ رُبَّمَا اشْتُرِيَتْ بِأَقَلَّ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ، وَإِنَّمَا مُرَادُ الْحَدِيثِ أَنَّ السَّارِقَ يُعَرِّضُ قَطْعَ يَدِهِ بِمَا لَا غِنَى لَهُ بِهِ لِأَنَّ الْبَيْضَةَ مِنَ السِّلَاحِ لَا يَسْتَغْنِي بِهَا أَحَدٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ أَنَّ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْجَلِيلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَقِيرَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، فَكَأَنَّهُ تَعْجِيزٌ لَهُ وَتَضْعِيفٌ لِاخْتِيَارِهِ لِكَوْنِهِ بَاعَ يَدَهُ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ وَكَثِيرِهِ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ الْبَيْضَةَ فِي الْحَدِيثِ ببَيْضَةَ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ يُسَاوِي نِصَابَ الْقَطْعِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ مَا خَسِرَ وَحِقَرِ مَا حَصَلَ، وَأَرَادَ مِنْ جِنْسِ الْبَيْضَةِ وَالْحَبْلِ مَا يَبْلُغُ النِّصَابَ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَنَظِيرُ حَمْلِهِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه - وَسَلَّمَ -: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، فَإِنَّ أَحَدَ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَفْحَصَ الْقَطَاةِ وَهُوَ قَدْرُ مَا تَحْضُنُ فِيهِ بَيْضَهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا، قَالَ: وَمِنْهُ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ وَهُوَ مِمَّا لَا يُتَصَدَّقُ بِهِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الْبَيْضَةَ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلَ حَبْلُ السُّفُنِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَهُ قِيمَةٌ وَقَدْرٌ، فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي ذَمَّ مَنْ أَخَذَ الْقَلِيلَ لَا الْكَثِيرَ، وَالْخَبَرُ إِنَّمَا وَرَدَ لِتَعْظِيمِ مَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ بِمَا تَقِلُّ بِهِ قِيمَتُهُ لَا بِأَكْثَرَ، وَالصَّوَابُ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْلِيلِ أَمْرِهِ وَتَهْجِينِ فِعْلِهِ وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُقْطَعْ فِي هَذَا الْقَدْرِ جَرَّتْهُ عَادَتُهُ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ.

وَأَجَابَ بَعْضُ مَنِ انْتَصَرَ لِتَأْوِيلِ الْأَعْمَشِ: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَهُ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مُجْمَلَةً قَبْلَ بَيَانِ نِصَابِ الْقَطْعِ انْتَهَى.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ فِي بَيْضَةِ حَدِيدٍ ثَمَنُهَا رُبْعُ دِينَارٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَعَ انْقِطَاعِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُسْتَنَدُ التَّأْوِيلِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأَعْمَشُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْبَيْضَةُ فِي اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ وَفِي الْمُبَالَغَةِ فِي الذَّمِّ، فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ بَيْضَةُ الْبَلَدِ إِذَا كَانَ فَرْدًا فِي الْعَظَمَةِ وَكَذَا فِي الِاحْتِقَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُخْتِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ لَمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ أَخَاهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي مَرْثِيَّتِهَا لَهُ:

لَكِنَّ قَاتِلَهُ مَنْ لَا يُعَابُ بِهِ … مَنْ كَانَ يُدْعَى قَدِيمًا بَيْضَةَ الْبَلَدِ

وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ الْآخَرِ يَهْجُو قَوْمًا:

تَأْبَى قُضَاعَةُ أَنْ تُبْدِيَ لَكُمْ نَسَبًا … وَابْنَا نِزَارٍ فَأَنْتُمْ بَيْضَةُ الْبَلَدِ

وَيُقَالُ فِي الْمَدْحِ أَيْضًا: بَيْضَةُ الْقَوْمِ، أَيْ: وَسَطُهُمْ، وَبَيْضَةُ السَّنَامِ أَيْ: شَحْمَتُهُ، فَلَّمَا كَانَتِ الْبَيْضَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ حَسُنَ التَّمْثِيلُ بِهَا كَأَنَّهُ قَالَ: يَسْرِقُ الْجَلِيلَ وَالْحَقِيرَ، فَيُقْطَعُ، فَرُبَّ أَنَّهُ عُذِرَ بِالْجَلِيلِ فَلَا عُذْرَ لَهُ بِالْحَقِيرِ.

وَأَمَّا الْحَبْلُ فَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّحْقِيرِ كَقَوْلِهِمْ: مَا تَرَكَ فُلَانٌ عِقَالًا وَلَا ذَهَبَ مِنْ فُلَانٍ عِقَالٌ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إِذَا اعْتَادَ السَّرِقَةَ، لَمْ يَتَمَالَكْ مَعَ غَلَبَةِ الْعَادَةِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ، وَأَيْضًا فَالْعَارُ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِالْقَطْعِ لَا يُسَاوِي مَا حَصَلَ لَهُ وَلَوْ كَانَ جَلِيلًا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بِقَوْلِهِ:

صِيَانَةُ الْعُضْوِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصُهَا … صِيَانَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي

وَرَدَّ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ:

يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ